بمناسبة مرور 800 عام على تواجد الرهبان الفرنسيسكان في بلادنا حارس الأراضي المقدسة في لقاء شامل ومميز :
الأب بيير باتيستا بيتسا بالا حارس الأراضي المقدسة :
- دستورنا يحظر بيع أي سنتمتر من الممتلكات المسيحية في مدينة القدس.
- عندما غادرت إيطاليا بأمر فاتيكاني للخدمة الكنسية في الاراضي المقدسة اعتقدت أنني سأكون حارساً لمتاحف ولكن سرعان ما استنتجت انني في أهم بقاع العالم .
- إن عمل وعطاء الفرنسيسكان للمجتمع المحلي يمتد منذ 800 عام وسنواصل تأدية رسالتنا بإخلاص.
يحتفل الفرنسيسكان يوم الأحد، الرابع من تشرين أول، بعيد شفيعهم ومؤسس رهبنتهم القديس فرنسيس الأسيزي.كما يحتفل الرهبان الفرنسيسكان هذا العام بمرور ثمانمئة عام على خدمتهم الكنسية في الاراضي المقدسة، هذه الخدمة التي تتشعب في عدة مجالات ما بين الرسالة الدينية والاجتماعية، العمل الجماهيري، خدمة أبناء المجتمع المحلي على اختلاف دياناتهم، الصحة،التربية والتعليم، التوظيف والتشغيل، وعلى رأسها حراسة الأراضي المقدسة بما فيها من ممتلكات سكنية وأماكن دينية ومقدسات وكنائس. وكل ذلك يأتي في ظل ظروف سياسية شائكة ومعقدة شهدتها وما زالت تشهدها الأراضي المقدسة والصراع الاسرائيلي الفلسطيني وغياب السلام الشامل في المنطقة عدا عن حروب عديدة عانت منها المنطقة.
في حوار شامل مع الأب بيير باتيستا بيتسا بالا رئيس حراسة الأراضي المقدسة استهل كلامه بتقديم نبذة تاريخية عن تواجد الرهبان الفرنسيسكان في بلادنا :
حافظ الرهبان على وجودهم في البلاد منذ مئات السنين مع تعاقب الحكومات والدول، أما منصب حراسة الأراضي المقدسة فأقرّه البابا الفاتيكانيّ عام 1342 وذلك لإسترجاع الأماكن المقدسة وتدعيم الوجود المسيحي الكاثوليكي في البلاد . ولكن العمل لم يقتصر على الجوانب الدينية بل تشعب الى بناء المدارس في جميع أرجاء الشرق الأوسط حيث ان مدارس تيراسنطا هي من المعروفة والعريقة جداً في المنطقة وهي مدارس يتعلم فيها المسيحيون على اختلاف طوائفهم وكذلك المسلمون المحليون. ثم اسس الفرنسيسكان المراكز الصحية، الصيدليات، مراكز العناية بالمسنين، وكذلك اقتنوا المنازل. هذه المهمة التي بدأها الفرنسيسكان قبل مئات السنين ما زالت مستمرة حتى يومنا هذا إذ يوجد ما يقارب الستمئة بيت في داخل البلدة القديمة نقوم بترميمها بإستمرار وتسكنها العائلات المسيحية. الملكية هي للكنيسة ونحن لا نبيع ! بل أكثر من ذلك... ممنوع ويحظر علينا أن نبيع وفقاً لبنود في أنظمتنا ودستورنا وقوانينا الرسمية.
- ماذا عن الرهبان والطواقم العاملة في إطار الفرنسيسكان وحراسة الأراضي المقدسة ؟
الثلثان من الرهبان هم من خارج البلاد من مختلف دول العالم وثلثهم محليون عرب ما بين فلسطينيين واردنيين وسوريين ولبنانيين. لدينا عدد جديد من المرتسمين من الناصرة والقدس وشفاعمرو. اما بالنسبة للمؤسسات فلدينا ما يزيد عن 2000 موظف يعملون في إطار مؤسساتنا وهيئاتنا. مراكزنا تمتد في جميع دول هذه المنطقة فلسطين، اسرائيل، سوريا، لبنان، الأردن، أما خدمتنا فتشمل أبناء مختلف الديانات.
- كيف توضح دوركم حالياً على ضوء الواقع السياسي في الحفاظ على الأماكن المقدسة ؟
من وجهة نظرنا الحفاظ على الأماكن المقدسة هو أمر جوهري لحماية الوجود المسيحي في البلاد المقدسة ولحماية الهوية المسيحية هنا. حتى وإن كانت هناك محاولات من قبل بعض الجهات لفرض سيطرتها على تلك الأماكن من منطلق الفائدة السياحية بعدما تبين أن الآلاف من السائحين يأتون لزيارتها، نحن نعتبرهم " حجاج " وليس " سياح " ولن نسمح لأي جهة او سلطة بالسيطرة على أي مكان ديني. السيطرة الوحيدة هي للكنيسة فقط. الفاتيكان لن يتخذ أي قرارات تفرّط بالأماكن المقدسة فهم على وعي وإدراك كامل بحساسية الوضع هنا ولن تكون أي تسوية حول الأماكن المقدسة.
- الفكرة السائدة هي بأن الكنيسة جسم ثري جداً ، ما مدى صحة هذا الإدعاء ومن أين تأتون بالدعم المادي ؟
أود التطرق للرهبنة الفرنسيسكانية تحديداً لأن كل رهبنة أو طائفة لديها أجندتها الخاصة بها. بالنسبة لنا فإن 95% من ميزانيتنا تأتي من خارج البلاد، يوم الجمعة العظيمة على سبيل المثال، في جميع أنحاء العالم، كل التبرعات في هذا اليوم هي للأراضي المقدسة، 60% منها للفرنسيسكان والأماكن المقدسة والبقية لجهات ونشاطات دينية أخرى. إضافة إلى ذلك توجد مؤسسات تدير ميزانيتها الداخلية أيضاً كالمدارس. ولكن لا يخفى ان المشاكل الإقتصادية التي عصفت بالعالم بما فيها أوروبا وأمريكا أثرت علينا أيضاً لأن العديد من المتبرعين فقدوا القدرة على دعم الكنيسة. رغم ذلك، نحن نعتمد على العناية الإلهية، نحن هنا ونعمل وفقاً للإمكانيات الموجودة لدينا، والنواحي الروحانية هي الأهم وليس المادية.
بالنسبة للمسيحيين المحليين في المدن والقرى المحلية كالناصرة والرملة وكفر كنا نشعر بوجود روح جديدة من النشاط والرغبة في التعاون والمشاركة في العمل والنشاط الجماهيري. توجد مجموعة رائعة من الشبان والجيل الجديد، ونحن يهمنا ان يبقى لديهم الشعور بالإنتماء والمسؤولية تجاه كنيستهم ونطلب منهم ان يواصلوا الوقوف الى جانب الكنيسة ودعمها.
- ما هو رأيك في مناهج التدريس المسيحي في المدارس وهل تعملون أي شيء لتطويرها ؟
هذا هو الجانب الأهم من وجهة نظري، موضوع التربية والتعليم. إن ابناء الطائفة المسيحية يطلبون منا الجوهر، الهوية، تقوية المعرفة والوعي لأن تكون مسيحياً. بالنسبة للمدارس، نشعر انه يجب زيادة عدد حصص التعليم المسيحي للطلاب المسيحيين وعدم تفضيل المواد العلمانية عليها بشكل كامل إذا مع احترامنا للرياضيات واللغات يجب عدم إهمال حصص الدين المسيحي. ونقطة أخرى هامة هي تأهيل أفضل لمعلمي الديانة المسيحية، وتنظيم فعاليات للشبيبة المسيحية خارج إطار المدارس مع التنسيق بين البلدات والكنائس لهذه الغاية. نحن نشرف على هذه النشاطات ونسعى لتوسيعها وزيادتها.
- ماذا عن برامجكم المستقبلية ؟
في الناصرة التي نعتبرها ذات أهمية مميزة، توجد فرق من الشبيبة وطلاب الجامعات الذين يلتقون في إطار حوار ديني مسيحيي، وهذه المبادرة التي بدأت بثمانية طلاب وصلت حالياً إلى مئات. كما توجد مبادرة لقاءات بيتية مسيحية للصلاة لدى العائلات المسيحية. نود توسيع هذا النشاط بالتعاون مع السكان المحليين لكل بلدة وبلدة مع زيادة تواصلنا معهم.
- كيف وصلت أنت الى هذا المنصب وماذا يقف وراء الثوب إذا ما سمحت لنا بالتطرق إلى حياتك الشخصية ؟
عمري 44 عاماً، ابن لعائلة متدينة بسيطة من شمال إيطاليا، نحن ثلاثة أخوة ، عمل أبي وأمي في مجال الزراعة ثم توجها الى العمل في مجال الحرف في ميلانو. منذ كان عمري خمس سنوات رغبت في أن أكون راهباً، فالرهبان في بلدتي كانوا طيبين جداً. كانت الدعوى المسيحية في أعماقي منذ كنت طفلاً، وفي سن أحد عشر عاماً لبست الثوب الرهباني في إيطاليا، ومررت بجميع مراحل الرسامة الكنسية. ثم في الخامسة والعشرين من العمر أخبرني المسؤول عني بأنه يجب عليّ القدوم إلى الأراضي المقدسة، إلى هنا . كانت هذه صدمة بالنسبة لي، فكرت انني أريد التعلم في روما والعودة إلى البيت. كانت رؤيتي بأن البلاد المقدسة هي بمثابة متاحف وأنا لا أريد أن أكون حارساً على المتاحف. هذا ما رأيته من خارج البلاد. ولكن عندما وصلت إلى البلاد في السابع من أكتوبر عام 1990 تبين لي أن رؤيتي كانت خاطئة. في ذلك اليوم توفي الراهب باجاتي الذي كان باحثاً وعالماً أثرياً عظيماً هنا في البلاد فشعرت أنني يجب ان أواصل مسيرته.
كذلك عند وصولي في فترة يتسحاق شمير وقعت أحداث الأقصى التي قُتل فيها عشرون فلسطينياً في القدس وكانت هذه المرة الأولى التي ارى فيها مواجهات عسكرية بهذا الشكل. هذا كان الدرس الأول الذي تبين لي من خلاله ان هذه البلاد ليست متحفاً كما اعتقدت !! بل هي أهم بقاع العالم. ثم تتابعت الأحداث والحروب. السنة الاولى كانت صعبة بشكل خاص ولكنني اعتدت على الحياة هنا .
- وكيف تشعر حالياً هنا بعد كل هذه الفترة الطويلة وما مدى اندماجك في المجتمع ؟
ان فترة تواجدي هنا اصبحت أطول من فترة حياتي في إيطاليا، ولولا شعوري بالسعادة والتواصل مع المجتمع المحلي لما تمكنت من الصمود طوال هذه المدة الطويلة.
- هل لديك أصدقاء ؟
على مدى السنين تكونت علاقات صداقة وأخوّة عديدة مع المجتمع المحلي. حالياً الأمر أصعب لأن المنصب يعزل لكثرة المهام والمسؤوليات.
- ما هي الرسالة التي تود توجيهها من خلال هذا اللقاء ؟
أود في البداية أن أؤكد انه من المهم جداً بالنسبة لي أن أكون هنا. كمسيحي أشعر أنني أنتمي لهذا المكان وهذا المكان ينتمي لي. عندما وصلت الى الأراضي المقدسة فهمت مدى ارتباط هويتي المسيحية بهذا المكان. هنا عاش المسيح . ونحن من يعيش هنا ننسى أحياناً المسؤولية الملقاة على عاتقنا سكان هذه البلاد. من المهم ان نحب المكان الذي نعيش فيه رغم كل الصعوبات، وأن نعطي ونساهم وان نخرج من الإطار المنغلقين فيه. يجب ان نعطي المجتمع ونخدمه . نحن لسنا هنا فقط من أجل حماية أنفسنا.
- هل يؤلمك أنه من هذا المكان المقدس بالذات تخرج الحروب والصراعات والنزاعات ؟
دائماً يسألونني عن هذا الأمر، ونعم يؤلمني. ولكنني استنتجت مع مرور الزمن ان هذا هوالتميّز في المكان، حيث تجد هنا ما هو موجود في جميع انحاء العالم، ولكن في مكان صغير ومكتظ. من الواضح وجود التوتر وهو جزء لا يتجزأ من واقع هذا المكان، ولكن توجد طريقة للعيش في هذه الظروف.
توجد اشياء كثيرة جميلة في هذه البلاد ولكننا لا نراها مع الأسف. نحن نرى فقط العنف والعزل والبغض والكراهية. ولكن يوجد ايضاً تعايش خاصة بين الناس العاديين في الحياة اليومية. وفي داخل الأماكن المقدسة ذاتها يوجد تعايش بين ابناء مختلف الطوائف المسيحية.
ان النزاعات بين بني البشر هي الوجه البشري لنا، فنحن لا نستطيع أن نكون ملائكة.
وكلمة ختام، يهمني ان اؤكد ان حراسة الأراضي المقدسة ستواصل رسالتها في العمل والدعم للمجتمع المحلي من خلال المدارس، المستشفيات، المطبعة العريقة والعظيمة، المراكز الصحية .. الواقع الحالي الصعب يضع امامنا تحديات عديدة ولكن إيماننا يجعلنا نقف بوجه كل هذه التحديات مع دعائنا بأن تشهد الأراضي المقدسة عملية سلام حقيقي وشامل يضمن أمن وسلامة جميع سكانه على اختلاف طوائفهم ودياناتهم.