* تبرز أهمية الحضور المسيحي بكونه رافدًا مهمًا وأساسيًا في توجيه مسيرة الحياة المشرقية برمتها
* طرح موضوع الحضور المسيحي العربي في البلاد العربية وفي منطقة الشرق الأوسط عموما، هو من الأمور المركزية في المرحلة الأخيرة التي تمر بها المنطقة
* الصراع المحتدم بين الاكليروس والشعب لن يضعف أو يزول ما دام أبناء المشرق مصرين على أنهم جزء من الكنيسة العربية التابعة تاريخيا وحضاريا ووجوديا وعاطفيا للمشرق العربي
سأتناول في مقالتي هذه كتاب سميح غنادري بعنوان "المهد العربي"(المسيحية المشرقية على مدى ألفي عام) والذي رأى النور قبل قرابة ثلاثة أشهر
الواقع أن طرح موضوع الحضور المسيحي العربي في البلاد العربية وفي منطقة الشرق الأوسط عموما، هو من الأمور المركزية في المرحلة الأخيرة التي تمر بها المنطقة، خاصة وان هناك مخططات لإعادة هندسة وتخطيط المنطقة جيوسياسيا، وهذا الجانب سيترك أثره على المجموعات المسيحية المنتشرة في عدة بلدان من المنطقة، أسوة بما سيتركه الأمر على مجموعات غير مسيحية تعيش في المشرق منذ فجر التاريخ
إنني أرى أن طرح الكتاب من منظار عروبي هو صلب الموضوع، بحيث انه ينقل (أي الكاتب) شهادة حقيقية وواقعية لحضور المسيحية العربية المشرقية عبر ألفي عام من نضال وكفاح لأجل البقاء في هذه المنطقة، هذا أولا؛ أما ثانيا فإن الكتاب يقدم صورة ناصعة ومشرقة لمساهمات المسيحيين في بناء حضارات هذا المشرق مهما تبدلت قيادات هذه الحضارات السياسية، فهم أي مسيحيو المشرق أعتبروا وما زالوا أنفسهم مركبا مركزيا من مركبات المنطقة، ولا يقبلون بأقل من هذا
أما الطرح الآخر الذي أصر مؤلف الكتاب على عرضه بصورة موسعة فهو كل ما له علاقة بالصراع بين رجال الدين الأجانب، وعلى وجه التحديد الاكليروس اليوناني المسيطر على مؤسسات البطريركية الارثوذكسية الاورشليمية، وكذلك الارساليات الأجنبية لطوائف أخرى، وبين سكان المشرق الأصليين الذين همهم الأساسي تثبيت الوجود والبقاء من خلال استثمار المقدرات المتوفرة بين أيديهم، كجزء من عملية مساندة هذا الوجود
ويظهر جليا أن الصراع المحتدم بين الاكليروس والشعب لن يضعف أو يزول ما دام أبناء المشرق مصرين على أنهم جزء من الكنيسة العربية التابعة تاريخيا وحضاريا ووجوديا وعاطفيا للمشرق العربي
من جهة أخرى يطرح مؤلف الكتاب بجرأة مسألة التقارب بين المسلمين والمسيحيين في الشرق إلى جانب طرحه مسألة الصراع والخلافات بين الطرفين اللذين يشكلان تركيبة العروبة الأصيلة
ولا يسير في طريق تغليف الخلافات أسوة بعدد من الباحثين الذين كان همهم طرح وجهات النظر المتقاربة ونبذ تلك النقاط الخلافية، العكس هنا، إذ طرحت القضايا الخلافية من باب مواجهتها والتصدي لها ومعالجتها بصورة موضوعية وفعلية، وعدم تركها للزمن، لأنه في تركها للزمن ما يؤججها ساعة انفجارها
وإن مسألة استعراض مساهمات المسيحيين عبر التاريخ في كل ما له صلة بسبل الحياة اليومية والتركيبة الحضارية عبر الترجمات عن لغات أخرى ورفع مكانة الباحثين من مؤرخين وأطباء وصيادلة وكيمائيين وغيرهم هو في حد ذاته تأكيد للحضور الحضاري للمسيحيين وكونهم جزء مركزي ومركب هام من مركبات المنطقة، وتأكيد بالمقابل على أن هذا الحضور ليس ماديًا فقط إنما روحيًا وحضاريًا وفكريًا، مما يدحض كل الادعاءات أن المسيحيين في المشرق العربي يعيشون في ضائقة حياتية أو جزء منها
من الأهمية بمكان الإشارة هنا إلى حصول حالات من التباعد والجفاء بين مركبات المجتمع العربي على أنواعها وأطيافها، لكن هذه ليس المشهد السائد على الإطلاق
وهنا تجدر الإشارة إلى أهمية الحضور المسيحي بكونه رافدًا مهمًا وأساسيًا في توجيه مسيرة الحياة المشرقية برمتها، أعني أن هذا الحضور ليس غريبًا، وليس إضافيًا، وليس اصطناعيًا، إنما هو واقعي وحقيقي ومتفاعل مع المحيط الذي يعيش فيه
لهذا، ومن هذه المنطلقات بالأساس نرى أن الاستفاضة في قضايا مساهمات المسيحيين المشرقيين في عدة مواقع من الكتاب تندرج ضمن هذه الرؤية والتطلعات التي يحملها المؤلف في داخله كهمٍّ إنساني وحضاري واجتماعي
وفي هذا السياق، ما دمنا قد ولجنا هذا الجانب، فإن فقرة أوردها المؤلف لفتت نظري ومن المفيد إطلاع القارئ عليها:"ولا يحق لا تاريخيًا ولا علميًا ولا ثقافيًا أن يُصّور البعض المسيحية وكأنها دين غريب عن البيئة الشرقية والعربية، فأحفاد المسيح الفلسطيني الشرقي هنا باقون والكنيسة كنيستهم والوطن وطنهم، سوية مع شعبهم العربي على اختلاف دياناته وطوائفه، وعبق التاريخ شاهدهم"(ص 27)
بهذه العبارات يلخص سميح غنادري شهادته عن المسيحية المشرقية ويدعو كافة أطياف الشعب العربي إلى النظر إلى المسيحيين المشرقيين من هذه الزاوية لكونها توحد وتقرب ولا تُبعّد وتُفرّق
أما الكتاب فهو عبارة عن مسرد تاريخي مُفصّل عبر محطات زمنية ذات صلة بالأحداث المركزية البارزة التي مرت بها الكنيسة المشرقية بكافة طوائفها ومركباتها، وتعاطيها مع الشؤون اليومية من سياسية واجتماعية وتربوية واقتصادية وغيرها
ولم يقف المؤلف عند باب العرض الزمني أسوة بعدد كبير من كتب التاريخ ذات الصلة بالموضوع، إنما تطرق إلى دور ومساهمات شخصيات علمية ودينية وسياسية واجتماعية وفكرية لعبت دورًا مركزيًا في صقل الشخصية العربية عامة منذ أن تعربت الكنيسة حتى مطلع القرن العشرين مرورا بالفترات الاموية والعباسية والفاطمية والمملوكية والعثمانية
وإذا كان مؤلف الكتاب قد ربط مصير مسيحيي المشرق بإخوانهم المسلمين على خلفية صراعات تاريخية ضربت المنطقة، فإنه يؤكد وحدة المصير في كل ما له علاقة بمستقبل العرب عامة
وحتى يصبح هذا المصير ثابتًا ومؤكدًا فينبغي على جميع مركبات المجتمع العربي الاطلاع على هذا التاريخ برؤية مغايرة لتلك التي عهدناها إلى الآن
لهذا، فالكتاب ليس عاديًا بمفهوم أنه إضافة إلى دراسات وبحوث أخرى، إنما دراسة شاملة ومسحية لمحطات ومنعطفات تاريخية قوية عصفت بأسس وبُنى المسيحية المشرقية، أضف إلى أن مؤلف الكتاب وعلى ضوء خلفيته السياسية والفكرية لم يكن يومًا من الأيام سائرًا في هذا الاتجاه، إنما ما دفعه إلى ذلك حميته في رؤية المسيحية المشرقية تحافظ على مكونات عروبتها، لكونها كنيسة عربية وكنيسة العرب قاطبة، أي أن المسيحيين عنصر ومكون أساسي في مسيرة تاريخ وتطلعات العرب
ولاهتمامه الجم بكشف حقائق ووقائع لطالما نسيها ذوي الاطلاع والمعرفة، أو لجهل أهل الشرق بوجود ودور المسيحيين المشرقيين
أن مؤلف الكتاب لا يخاطب فقط المسيحيين المشرقيين ـ العرب إنما يوجه خطابه من خلال عرضه التاريخي والاجتماعي والنضالي إلى كافة مركبات الشعب العربي، خاصة إلى المسلمين الذين مع إخوانهم المسيحيين يتوقون إلى رؤية شمس الحرية تضيء هذا المشرق البديع والرائع، المتشوق إلى رؤية خلاصه في أقرب فرصة
ولا بد من كلمة تلخيصية حول هذا الكتاب الذي قرأته دفعة واحدة، أنه مثير للإهتمام بأبوابه وطرح قضايا عربية ومسيحية مشرقية مركزية ذات أهمية في صياغة شكل ومضمون الحضارة العربية الحالية على ضوء قواعد وأسس سابقة
وأعتقد أن المؤلف قد وفق في الجمع بين الواقع الحالي والوقائع التاريخية ووضعها في إطارها الصحيح على ضوء تجربة نضالية وسياسية واجتماعية وثقافية عاش غمارها