* نشأ في بيت غلبت عليه أسس العروبة حيث أن أخويه يوسف وفايز كانا عضوين في الحزب القومي السوري الذي أسسه وقاده أنطوان سعادة
* الصايغ يخصص الفصل الأول وبإسهاب كبير للحديث عن طبريا وحياة العائلة فيها على مدى عقود طويلة، وانسجامه هو مع طبيعة هذه الحياة وحبه لطبريا
* الكتاب في شمولية كبيرة تمكن بواسطتها أنيس صايغ أن ينقل إلى القارئ صورًا كثيرة جدًا عن أنماط الحياة الاجتماعية في بلد المنبت طبريا وفي عدد من قرى ومدن فلسطين
* كتاب "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" هو وثيقة تاريخية تنم عن خبرة صاحبها الواسعة في الشأن الفلسطيني على وجه الخصوص، واكب أبرز الأحداث التي عصفت بالقضية الفلسطينية
* المشاعر نحو فلسطين تجري في العروق مع الدماء، شأن غالبية الفلسطينيين. وأستطيع أن أقول إني وعيت القضية الفلسطينية منذ الطفولة في أحاديث الأهل في البيت والطلاب والأساتذة في المدرسة
أنيس صايغ مدير مركز الأبحاث التابع لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومبدع فكرة "الموسوعة الفلسطينية"، ومؤسس ومحرر عدد من المجلات الفكرية والسياسية الفلسطينية والعربية وواضع مجموعة كبيرة من الدراسات والخبير في الشؤون الفلسطينية، وقضايا الصراع الاسرائيلي ـ الفلسطيني/العربي، أبى إلا أن يضع كتابًا عن نفسه بنفسه. كان يعرف أن أحدًا لن يكتب عنه كما هو يريد أن يعرف العالم عنه. إن هذا الكتاب هو سيرة ذاتية ومذكرات وعصارة خبرة حياة وتجربة عملية لأحد البارزين في المشهد السياسي ـ الثقافي ـ الفكري الفلسطيني في العقود الخمسة الأخيرة. صدر الكتاب في عام 2006 في 534 صفحة في تسعة أبواب كأنها ترسم مسيرة حياته الزمنية متزامنة مع مسيرة القضية الفلسطينية والحراك الفلسطيني ـ العربي والدولي. وباعتقادي أن الكتاب وإن يُصنّف من حيث نوعه في باب "السيرة الذاتية" إلا أنه أقرب إلى المسرد التاريخي الزمني لأبرز الأحداث التي عاشها أنيس صايغ، أو شارك في صنعها بنفسه أو بالمشاركة مع آخرين. ومن هنا نلحظ بوضوح أن الكتاب في شمولية كبيرة تمكن بواسطتها أنيس صايغ أن ينقل إلى القارئ صورًا كثيرة جدًا عن أنماط الحياة الاجتماعية في بلد المنبت طبريا وفي عدد من قرى ومدن فلسطين كالبصة وعكا وحيفا والناصرة والقدس، ثم في عدد كبير من مدن العالم العربي كبيروت وصيدا ودمشق وبغداد والقاهرة ومدن الخليج والمغرب العربي ومدن اوروبا، ونقل مشاهد مثيرة للغاية عن حياة زعماء سياسيين ومفكرين ومثقفين. وامتلك من الجرأة بما فيه الكفاية ليوجه انتقادات لاذعة وصحيحة لعدد من هؤلاء الزعماء والشخصيات، ووجه مديحًا معتدلاً وموضوعيًا لعدد آخر منهم بعد أنّ تحقق من صدق نواياهم ومسيرتهم الشخصية والسياسية والقيادية.
يتوقع قراء السيرة الذاتية هذه أنّ صاحبها سيجول بنا في عالمه الخاص، إلا أن سرعان ما سيخيب أملنا، ولكن لن نترك الكتاب جانبًا إلا بعد أن نغوص في بواطنه مستكشفين أنّ الصايغ قد وضع جانبًا معظم أموره الشخصية، إلا ما له علاقة بين أموره الشخصية وطبيعة عمله، بل قُل رسالته التي تمحورت ودارت طيلة حياته حول القضية الفلسطينية. إن سيرته الذاتية هي مسيرة القضية الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص منذ عام النكبة 1948 الذي احدث فيه انقلابا كبيرا ووجهه نحو العمل من اجل القضية.
لم يأت أنيس من فراغ، إنه من بيت يحمل كل فرد فيه القضية الفلسطينية، والديه وإخوته "الصُيّاغ" يوسف، فايز فؤاد ومنير وتوفيق جندوا حياتهم لخدمة القضية. لهذا فإن الأحداث التاريخية التي عصفت بالقضية الفلسطينية قبل العام 1948 كانت في صلب حياة هذه العائلة في طبريا(المدينة التي ولد فيها وعاش في كنف أسرته أو في قرية البصة الواقعة إلى الشرق من الناقورة بعدة كيلومترات، وهي منبت والدته وفيها أمضى مع عائلته فترات من العطل المدرسية). يُخصص الصايغ الفصل الأول وبإسهاب كبير للحديث عن طبريا وحياة العائلة فيها على مدى عقود طويلة، وانسجامه هو مع طبيعة هذه الحياة وحبه لطبريا، وقدّم وصفًا مطولا عن حياة العائلة في طبريا وعن طبريا ومجتمعها. وبقيت طبريا تلاحقه أو هو يلاحقها، فيلخص ذاكرته التاريخية والعاطفية بخصوصها بقوله:"هذه هي طبريا. هكذا كانت وهكذا هي في الذاكرة والوجدان وفي الأحلام التي تتكرر يومًا بعد آخر على امتداد ما يزيد على خمسين عامًا".(ص 101) ويختتم كتابه بطبريا قائلاً:"في طبريا، وعلى الطريق إلى طبريا، ومن أجل طبريا، يطيب الموت، لأن المرء يموت واقفًا. وكأنه لا يموت. هناك يتساوى الموت مع الحياة حلاوة. ودون ذلك تتساوى الحياة مع الموت مرارة".(ص 507)
وكانت مرحلة الدراسة في القدس ثم في بيروت فرصة لأنيس صايغ للتعرف على وضعية العالم العربي مباشرة بعد نكبة فلسطين. وبدأ يتعامل مع التيارات والحركات الحزبية والفكرية ليس فقط كدارس لها بل كممارس فعلي. ويشير إلى أن "المشاعر نحو فلسطين تجري في العروق مع الدماء، شأن غالبية الفلسطينيين. وأستطيع أن أقول إني وعيت القضية الفلسطينية منذ الطفولة في أحاديث الأهل في البيت والطلاب والأساتذة في المدرسة. ولكني، بانغماسي مع رفاقي السوريين القوميين، غلبت الهموم والآمال الحزبية فيّ على الهموم والآمال العامة كشيء منفصل ومستقل. وكان كل من هذين الصنفين من الهموم والآمال مرتبطًا بالآخر ارتباطًا عضويًا".(ص183) وهو قد نشأ في بيت غلبت عليه أسس العروبة حيث أن أخويه يوسف وفايز كانا عضوين في الحزب القومي السوري الذي أسسه وقاده أنطوان سعادة. وأثار نشاط هذا الحزب ظاهرة حراك سياسي وفكري واسعة في لبنان وغيرها من مناطق الشرق. وأثرّت عليه كثيرًا عملية إعدام سعادة بتواطئ من حكومتي لبنان آنذاك وحسني الزعيم الذي قلب الحكم في سوريا، وقام بتسليم سعادة إلى الحكومة اللبنانية بعد أنّ استنجد الأخير به. وكان أنيس صايغ على وعي سياسي وتاريخي كبير في مسألة تفشي وتغلغل الطائفية في المشهد الحياتي العربي، خاصة في لبنان، فجاء مؤلفه الأول بعنوان "لبنان لطائفي" ليهُزّ الساحة الجامعية والأكاديمية بما طرحه من فكر وتوجهات، مع تأكيده على أن فلسطين لم تشهد في عمرها المعاصر أي ظاهرة من الطائفية.(ص 171)
وأدرك أنيس من خلال رؤيته لما يجري على الساحتين الفلسطينية والعربية من نشاط لا يرقى إلى مستوى فعلي لمواجهة الاحتلال الاسرائيلي والهيمنة الصهيونية العالمية، فبذل جل جهده طيلة عمره من أجل نشر الوعي المعرفي بين أوساط الفلسطينيين من قيادات ومتعلمين ومقاومين ومنظمات وهيئات وجمعيات ومؤسسات فلسطينية وعربية على مختلف مستوياتها. "وقد لاحظت، كما كان يلاحظ كل متخصص بالدراسات الفلسطينية، مدى اتساع الجهل العربي بحقائق المسألة الفلسطينية وتفاصيلها، وخاصة فيما يتعلق بالعدو. وانطلقت من هذه الملاحظة إلى حرص مركز الأبحاث في منشوراته، وخاصة التي تصدر باللغة العربية، على التعريف بالعدو: تاريخه وأفكاره ومخططاته وسياساته، وبنوع أخص الكيان لقائم زورًا على أرض فلسطين".(ص 188)
فقام بنفسه بإعداد مجموعة كبيرة من الدراسات والبحوث حول اسرائيل وطبيعتها، وحول التاريخ الفلسطيني ليوازي بين المستويين بحيث تتوفر للفلسطيني فرصة التعرف على تاريخه وفرصة أخرى في التعرف على خصمه وعدوه.
وخصص الصايغ الفصل الخامس ليتحدث بإسهاب عن مركز الأبحاث وعن مشروع أول موسوعة فلسطينية علمية وشاملة. وسرعان ما تحول هذان المشروعان إلى مُركب أساسي من حياته ووجدانه ومصيره. ولم يكتف بالآمال والنوايا، فكان رجل الفعل، إذ بادر إلى جمع عدد كبير من الباحثين الفلسطينيين حول المركز وجمع أيضًا عددًا من الجامعيين والدارسين ليكونوا نواة البحث العلمي في المسألة الفلسطينية.(ص 223) لقد آمن الصايغ أنّ البندقية لا تكفي لمقارعة العدو، الحاجة إلى التصدي له بالحجة التاريخية المؤسسة على حقائق ودلائل وبيانات تستند على البحوث والدراسات. لهذا أسس عددًا من المجلات البحثية الفلسطينية والعربية ووضع خططًا لإصدار عدد كبير من الدراسات التي تغطي مساحة كبيرة من التعريف باسرائيل والحركة الصهيونية.
ويؤكد هذا التوجه بقوله "أن المواطن الفلسطيني والعربي المؤمن بالحق الفلسطيني إيمانًا يملأ قلبه ووجدانه ويستولي على مشاعره وأحاسيسه إلى حد استعداده للتضحية(والاستشهاد) من أجل هذه القضية المقدسة، إنما هو قليل المعرفة، بوجه عام، بعدوه معرفة صحيحة تشمل حياته وتفكيره وأساليبه وأوضاعه السياسية والحزبية والعسكرية والأمنية والسكانية والاجتماعية والاقتصادية والصناعية والزراعية والمالية والمدنية والثقافية والتربوية وغير ذلك من أوضاع مجموعة من البشر استولت على أرض وأقامت كيانًا استيطانيًا عدوانيًا دخيلاً. وما لم تكن هذه المعرفة للعدو شاملة وصحيحة ومفصلة وموضوعية، تبقى حماسة المواطن واندفاعه ضد عدوه قاصرًا عن أن يكون كافيًا للانتصار بتدمير الكيان واسترداد الأرض وعودة أصحابها إليها".(ص 227)
ومن منطلق فهمه جيدًا لطبيعة الصراع الاسرائيلي ـ العربي فقد ميّز تاريخيًا وواقعيًا بين اليهودية والصهيونية، وشدّد من منطلق الخلفية الفكرية التي امتلكها على تحديد أهداف الثورة الفلسطينية بتحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطينية ديموقراطية تشمل عرب فلسطين ويهودها ولا تكون دولة عنصرية. وحرص المركز وعلى رأسه أنيس صايغ على محاربة المزاعم بأن من أهداف المنظمة رمي اليهود في البحر. وتبنى المجلس الوطني الفلسطيني هذه الرؤية الواضحة التي نادى بها.(ص 228) وخصص الفصل السادس من كتابه للحديث عن خبرته مع أعلى القيادات الفلسطينية، خاصة مع ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. ويعكس في هذا الفصل بصورة قاطعة البون الشاسع بين رؤية القيادات الفكرية والمثقفة والقيادات السياسية والميدانية. وكانت رؤية الصايغ إلى أن يكون مركز الأبحاث مستقلاً وموضوعيًا دون تدخل من قبل عرفات، إلا أن الأخير كان كثير التدخل وكان مُصِرًّا على معرفة كل صغيرة وكبيرة ابتداء من الأموال وانتهاء بالنشر. ويُلخص الصايغ تدخل عرفات بقوله"كان يريده مؤسسة خاصة تابعة له شخصيًا فتخوض حروبه مع الآخرين، سواء كانوا من الفصائل الفلسطينية أو حتى من منافسيه في حركة فتح التي كان يتزعمها".(ص294)
وبعد ترحمه على عرفات يوجه نقده اللاذع له خاصة في إجهاضه مشاريع ثقافية وفكرية هامة تولى تأسيسها أو إدارتها الصايغ وهي مركز الأبحاث والموسوعة الفلسطينية ومجلة شؤون فلسطينية. "أنا لا أؤرخ لحياته(يقصد عرفات) ولا أقيّم أعماله. أما في إطار إسهامه في هذه المجالات الثقافية الثلاثة فأنه لم يكتف بعدم دعمها وتطويرها وتسهيل أمورها، بل حاول جهده أن يجهضها ويلغيها. وقد نجح، مع الأسف. وكان له ما أراد. إنما لمصلحة من؟"(ص 332) وهو بهذه الخبرة مع عرفات كزعيم فلسطيني يكشف عن أنماط سلوكية وفكرية لقيادات عربية. ومن جهة أخرى يوضح موقفه دون تلعثم أو تردد.
وكان أنيس وحتى رحيله من رافضي التسوية الاستسلامية مع اسرائيل ويُلخص هذا لحدث التاريخي المشؤوم بقوله:"في الثالث عشر من أيلول / سبتمبر 1993 سقطت الأقنعة نهائيًا عن وجه السيد ياسر عرفات، ومعاونيه وبطانته وزلمه وحاشيته. وانكشفت النوايا والمخططات. وتبين لماذا كان مركز الأبحاث ومجلته والموسوعة الفلسطينية (المجندة كلها ضد الاستسلام) هدفًا دائمًا للطعن ومحاولات الإلغاء والتدمير. إن وصول المسيرة إلى تسوية 13 أيلول الاستسلامية كانت تهدف هدم العقبات والعراقيل. لا بد من شطب النضال الثقافي لتحقيق الاستسلام السياسي".(ص 334 وص 477) ويلخص الصايغ أسباب استقالته من المركز وموقفه من عرفات في نقاط عشر في آخر الفصل السادس.(ص 335) أما في الفصل السادس فيخصصه للمدن التي زارها وخبرته الحياتية فيها منفردًا أو مع رفيقة حياته هيلدا شعبان التي يتكرر اسمها مرات عديدة دون أن يُقحمها كثيرًا في مواقفه وتوجهاته التاريخية والسياسية، وكأني به يريدها أن تبقى بعيدة عن التأثير على فكره، وهو ـ أي أنيس ـ كان مؤرخا وباحثا مستقل الرؤيا والفكر والطرح، يعمل بما يمليه عليه ضميره الإنساني الفلسطيني وواجبه الأكاديمي كباحث ومناضل من أجل قضية آمن بها ووظف طاقاته لأجلها. وما يلفت الانتباه في هذا الفصل نقله صورًا لما عاناه ويعانيه المسافر العربي عامة والفلسطيني خاصة في المطارات العربية، وكيف تسير الأمور سهلة في مطارات العالم الغربي مقارنة مع العربي. وهو نفسه قد مر في تجارب المطارات. وينقل لنا صورًا تاريخية وواقعية عن مجرى الحياة ومركباتها في المدن العربية التي زارها، ولا يتوانى عن ذكر ما يحب منها وما يبتعد عنها. أما الفصل الأخير وهو التاسع فيُخصصه للمرحلة الأخيرة من الحياة، وهو يعترف بقرب نهايتها. ويعتبر أنيس الصايغ أن التسوية الاستسلامية من عام 1993 كانت بمثابة أعلى درجات الإحباط التي أصابته في الصميم. وهي كانت نقطة تحول في حياته، حيث اعتبرها بداية التقاعد دون التقاعس. فكيف لهذا الأسد أن يستريح وهو يرى أن الوطن يضيع من بين يديه، وأن القضية تفكك وتمزق وحدة الشعب الفلسطيني، وحاول العمل مع من بقي من فلسطينيي الضمير لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، إلا أنه يبقى في دائرة الإحباط.(ص 474) ولم تخل السيرة الذاتية من ذكر مئات أسماء لشخصيات سياسية وفكرية واجتماعية وثقافية لعبت دورًا في تشكيل حياته وفكره السياسي والنضالي. وهو في توجهه واضح وشفاف لا يميل إلى تشويه علاقاته مع من عرفهم، وإن كانوا قد أساؤوا إليه. ولكن الملفت للانتباه أنه من خلال إتيانه على ذكر الكم الهائل من الأسماء يبين سعة اطلاعه أولاً، ثم سعيه إلى كشف توجهات ورؤى من التقى بهم تجاه القضية الفلسطينية، وقدرته الشخصية على بناء شبكة علاقات مع من هم على استعداد للتعاون معه في سبيل تطوير قدرات البحث والدراسات الفلسطينية. بالمجمل العام فإن كتاب "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" هو وثيقة تاريخية تنم عن خبرة صاحبها الواسعة في الشأن الفلسطيني على وجه الخصوص، واكب أبرز الأحداث التي عصفت بالقضية الفلسطينية، إنما من الوجهة المعرفية والتثقيفية لإيمانه القاطع بأن ما من شعب يخوض صراعًا دون أن يمتلك المعرفة عن خصمه وعدوه، وإلا فإن صراعه يبقى ضعيفًا ومُُصابًا بالترهل والتلاشي.