- ابراهيم صرصور :
* قد افهم وأتفهم حرص الإسرائيليين على إحياء ذكرى المحرقة ... هذا أمر عادي ... وقد أتفهم أيضا تعاطف دول الغرب مع اليهود بسب ما ارتكبوه في حقهم من جرائم
* كانت المحرقة صناعة غربية بامتياز ، فما ذنب الشعب الفلسطيني حتى يكون الطرف الذي يتحمل نتائجها ؟؟!! الحقيقة غير الخافية هي أن أوروبا تتحمل المسؤولية عن ( محرقتين ) لا واحدة
* جعلوا من برلمانات العالم أدوات لخدمة أغراضهم من خلال إجبارها على استصدار قوانين ( معاداة السامية ) ، والتي اعتبرت ليس فقط التشكيك في المحرقة أو عدد ضحاياها ، ولكن من ينتقد إسرائيل وسياستها والفكرة الصهيونية ومشروعها
تابعنا باستغراب واندهاش خطابي ( شمعون بيرس ) ( ونتنياهو ) في ذروة النشاطات التي شهدها أكثر من موقع في العالم وخاصة في ألمانيا ( البوندستاج ) حيث ألقى الرئيس الإسرائيلي خطابه ، وفي بولندا ( أوشفتس ) حيث ألقى رئيس الوزراء خطابه أيضا ، وذلك في اليوم العالمي لإحياء ذكرى المحرقة النازية ... لمسنا في الخطابين مدى الصلف الذي وصلت إليه النفسية الإسرائيلية ، ومدى الاستثمار غير المشروع لآلام الملايين من اليهود الذين قضوا إبان لحكم النازي مع عشرات الملايين من أمم الدنيا وعرقيات العالم ، وهي الجريمة التي لا يمكن لعاقل إلا أن يندد بها ، استثمارها تحقيقا لأغراض سياسية محضة وتبريرا لجرائم ما زالت ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية منذ قيامها في العام 1948 وحتى اليوم ...
ما زال الخطاب الإسرائيلي انتهازيا إلى أبعد الحدود في تعامله مع المحرقة ، حتى أنني لأتخيل أنه لو أُذِنَ لملايين اليهود الذين وقعوا ضحايا لتلك الحقبة السوداء من تاريخ الإنسانية ، لنطقوا بلسان واحد يرفض هذا التسخير المسيء لهذا الملف الإنساني لخدمة أجندات ظاهرها الدفاع عن إسرائيل والشعب اليهودي في مواجهة ( عماليق ) الماضي والحاضر ، وباطنها إعادة تشكيل ( موديل ) جديد من موديلات الفاشية التي تقتات من دماء الأبرياء لإحياء ( وحش ) سياسي جديد تُخْفي أصباغُ الديمقراطية والحداثة حقيقَتَه المزيفة ووجهه البغيض ...
قد افهم وأتفهم حرص الإسرائيليين على إحياء ذكرى المحرقة ... هذا أمر عادي ... وقد أتفهم أيضا تعاطف دول الغرب مع اليهود بسب ما ارتكبوه في حقهم من جرائم ... وهذا أيضا أمر عادي ... ولكن الذي لا أستطيع أن أفهمه ولا أن أقبله هو الشعور الطاغي بأن من حق إسرائيل كممثلة ليهود العالم ، وبدعوى حرصها على ألا تسمح بتكرار جريمة المحرقة ، أن تكون فوق القانون وأن ترتكب من الفظائع ضد الشعب الفلسطيني ما لا يمكن وصفه إلا بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وإبادة شعب ، واستمرار تنكرها للنكبة الفلسطينية التي شردت وما تزال أكثر من سبعين بالمائة من الشعب الفلسطيني ، ورفضها الاعتراف بالحقوق المشروعة لهذا الشعب ولو على جزء من وطنه فلسطين ، واستمرار انتهاكها اليومي للقضية الفلسطينية إنسانا وأرضا ومقدسات ، وتعميق ممارساتها العنصرية ضد الأقلية القومية الفلسطينية التي تعيش على ارض وطنها داخل الخط الأخضر ، ثم هي تُلْفِتُ الأنظار كما جاء في خطابي بيرس ونتياهو إلى خطر وهمي هو إيران في محاولة صفيقة لتبرير جرائمها وشرعنة نزعاتها التوسعية ...
هذا من جهة ، أما من الجهة الأخرى فالذي لا يمكن لأحد فهمه وقبوله هو سكوت العالم على جرائم إسرائيل وانتهاكاتها ، وسعيه الحثيث إلى دعمها وإسنادها مهما ارتكبت من الفظائع ، وتغاضيه عما يصنعه ( ضحايا الأمس ) من بشاعات في حق الأبرياء ( ضحايا اليوم ) من الفلسطينيين ، وما يسببونه من آلام لملايين المقهورين من أصحاب الأرض التي أقاموا عليها كيانهم ... إن كانت المحرقة صناعة غربية بامتياز ، فما ذنب الشعب الفلسطيني حتى يكون الطرف الذي يتحمل نتائجها ؟؟!! الحقيقة غير الخافية هي أن أوروبا تتحمل المسؤولية عن ( محرقتين ) لا واحدة ، الأولى ضد اليهود في أربعينات القرن الماضي وقد انتهت مع سقوط ( الرايخ ) وتحرير ( أوشفتس ) ، والثانية ضد الشعب الفلسطيني في أربعينات القرن الماضي أيضا وبفارق سنوات قليلة عن محرقة اليهود ، والتي ما تزال مستمرة ومتعاظمة تجري فصولها وتُحْفَرُ أحداثها في أجساد الفلسطينيين وفي أرضهم وفي مقدساتهم بأيدي ضحايا نازية الأمس من اليهود وبأيدي من ذبحهم من الأوروبيين ...
لقد نجح اليهود وإلى أبعد حد في استدرار عواطف شعوب العالم بسبب الهولوكوست، كما ونجحوا في ضمان انحياز هذا العالم بحكوماته وإعلامه وماله وقراراته وحتى فنه ، إلى جانبهم رغم تحولهم منذ زمن بعيد من ضحايا إلى مجرمين ، ومن مضطَهَدين إلى طغاة جبارين ، ومن مطارَدين إلى مطارِدين ومن محكومين إلى حاكمين ، ومن ضعاف مسحوقين إلى بغاة متجبرين ... ليس هذا فقط ، بل جعلوا من برلمانات العالم أدوات لخدمة أغراضهم من خلال إجبارها على استصدار قوانين ( معاداة السامية ) ، والتي اعتبرت ليس فقط التشكيك في المحرقة أو عدد ضحاياها ، ولكن من ينتقد إسرائيل وسياستها والفكرة الصهيونية ومشروعها ، جريمة تستحق المحاكمة ، كما حدث مع المفكر الفرنسي روجيه جارودي وغيره من المفكرين ، في إعلان أوروبي وعالمي صريح لبيع علني لكل قيم الحرية واللبرالية التي تتشدق بها تلك المجتمعات ...
إن نجحت إسرائيل في ظل حالة النفاق العالمي والشلل العربي والإسلامي في إقامة دولة تعتبر وبلا منازع الأقوى في الشرق الأوسط ديمقراطية فيما يتعلق ببنائها السياسي والمؤسساتي الداخلي تجاه الأغلبية اليهودية ، وعسكرياً واقتصاديا بسبب الدعم العالمي اللامحدود ، وسياسيا بفعل الفيتو الأمريكي ، إلا أن هذا كله لن يغير من حقيقة أن إسرائيل لن تعرف الراحة ، واليهود لن يعرفوا السلام والأمن ما لم يستخلصوا العبرة من ( المحرقة ) ... العبرة في رأيي المتواضع يعرفها اليهود جيدا ... إنها الحق الفلسطيني الكامل ... هو فقط ما سيضمن لإسرائيل الوجود ، أما الدعم الأوروبي والأمريكي فزائل ... الحقيقة هي أن الغرب الذي ذبح اليهود على الدوام ، لن يكون حليفا على الحقيقة أبدا ... أما العرب والمسلمون الذين كانوا حماة اليهود وغيرهم من شعوب الأرض على الدوام ، فهم الضمان لأمنهم والحلفاء الذين يمكن الوثوق بهم إن تحققت العدالة بحذافيرها ، وإلا فالقاعدة ما قال الله : " كل نفس بما كسبت رهينة . "... صدق الله العظيم ...