عندما تفقد بنادق"غسان كنفاني" صوابها
!
ان ما جرى في قطاع غزة من احداث مؤسفة ومخزية في نفس الأمرمن إنتحار مجاني بين حركتي فتح وحماس اسميناه " إقتتال داخلي " حينا و "صراع بين الاخوة الأعداء" حينا اخرى, بل كثرت التسميات, يثير الاسى والحزن والاشمئزاز ويطرح الكثير من الأسئلة الجارحة عن حاضرومستقبل شعبنا الفلسطيني وقضيته الوطنية العادلة
هذه الأسئلة وان كانت بديهية الا ان واقعها كبير لأنها تقوم بالبحث عن الثوابت الوطنية الفلسطينية والتي اذا تجاهلناها تكون النتيجة مدمرة
انها تبحث عن شيء ان فقدناه فقدنا كل شيء
فقدنا واضعنا
فقدنا القضية
انها تبحث عن معنى الوحدة الوطنية ووظيفة السلاح الفلسطيني وتوجيه بوصلته،هذا السلاح الذي لم يعد سلاحا وبعضه لم يعد فلسطيني الهوية وفقدت بوصلته التوجيه الصحيح
اما بالنسبة لهذه الحركة والتي اطلقت الرصاصة الاولى معلنة بذلك انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة
الحركة التي قادت النضال الوطني الفلسطيني طوال العقود الماضية وقدمت عشرات الآلاف بل مئات الآلاف من الشهداء لتحرير الوطن المغتصب لتنتهي بعد 42 سنة من انطلاقتها الى "تيارات " و"حركات " و" كتائب" و" مجموعات " و " قبائل "؟ فهذا تيار يسمي نفسه"اصلاحي" وفي الحقيقة هو "انقلابي"
وبين الحين والآخر نشهد انطلاقة جديدة لحركة فتح؟! وعلى النقيض نشاهد على الطرف الاخر " صحوة " ما بعدها صحوة وبجدارة
!
النتيجة وكما كان متوقعا لهذا الصراع هي انه اصبح لشعبنا الذي يناضل من اجل الحصول على دولة حكومتان بدون سلطة
هل هذا ما اراده دم الشهداء الذين قضوا من اجل القضية؟ هل هذا ما اراده صناع الثورة؟ كم كنت عظيما يا "جيفارا" في مقولتك, "ان الثورة يصنعها الشرفاء ويرثها ويستغلها الأوغاد"
وقد كثر الأوغاد في زماننا
! نعم لقد صدقت يا شهيدنا الخالد" كمال ناصر" في مقولتك," سيأتي يوم تصبح فيه الخيانة مجرد وجهة نظر", وفعلا نحن نعيش هذا اليوم
!
السلاح الفلسطيني وفقدانه لتوجيه بوصلته:
هكذا كانت البداية
في قطاع غزة، يمكن لبندقية فلسطينية أن تكون في خدمة تيار داخل تيار، داخل طرف، في تنظيم حركة فتح
والأنكى انها بندقية بترخيص وتوجيه اسرائيلي؟ وتستمر الرواية, وكثرت البنادق واصبحت ايضا"حمساوية"
بنادق "فتحاوية" امام بنادق "حمساوية"
وقد تكتمل الرواية فتصبح بنادق "حمساوية" امام بنادق "حمساوية"
وان كنا لا نريد لها ذلك, الا انه توجد مؤشرات ومن داخل حماس تؤيد صحة ما اقول
!انها بنادق تقوم بأكل ما تبقى من امن للمواطن المنهوكة قواه تحت الحصار في غزة
ويتحول السلاح الى لعنة على يد مرشد السلاح الذي يصير اداة الجريمة والموت في حصاروصراع وقتال" الاخوة الأعداء"
لقد بدأ التنافس بين وسائل اعلام الحركتين المتناحرتين على من يبث ويعلن عن عدد القتلى والجرحى والمختطفين من ابناء الحركة المنافسة
آه ثم آه يا شهيدنا البطل "غسان كنفاني"
كم نحن بحاجة اليك اليوم
! هل من وسيلة نقوم من خلالها بارجاعك ولو لبضعة ايام
اعرف ان طلبي مستحيل, ولكن عند"الله عز وجل" لا وجود للمستحيلات
!
آه يا غسان,اعرف ومنذ نعومة اظفاري ان الشهادة علمها عند ربي
لكننا وبقدرة خالق قادراصبحنا نمتلك هذا العلم
فاصبح بمقدورنا ان نوزع الألقاب على موتانا
فمن يقتله العدو الاسرائيلي فهو "شهيد" ومن يقتله اخوه الفلسطيني فهو "قتيل", وعليه واعتمادا على هذه النظرية بامكاني القول بان "ناجي العلي" غادرنا "قتيلا", و"ابو جهاد" حظي بلقب"نصفه قتيل ونصفه الثاني شهيد", واما انت فقد حظيت بلقب"شهيد" وهذا هو الفوز العظيم
!ان شبابنا فقراء وقتلى، ضحايا بلا سبب، منافقون بدون اثم ولم يشيعهم الناس الى المقابر, لانهم لم يعودوا شهداء عملا بالآية التي تقول:" ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره انهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون"
ان شبابنا اصبحوا في نظر"قادتنا" زعرانا في مقتبل عمرهم بلا مستقبل, بلا عنوان وبلا امل ايضا، وتحت الحصارالقاتل والموت الذي ينتظرهم في كل لحظة
ومعهم ما يلزم من الوقت والدقائق على هاتفهم" الجوال ", وفي المخزن ما يكفي من رصاص للجريمة، وللبطولة ان جاءت على يد قذيفة اسرائيلية
هؤلاء الشباب، لم يقرأوا تاريخهم ولا تاريخ أعدائهم ، ولم يعرفوا صورة موتهم الا في "بوستر" ملون ومؤقت سوف يصمد بدوره على احد الجدران
ولكن أية جدران؟
ان بعض شبابنا يرفض ثقافة الموت ولا يتبنى سياسة "ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" ولا يؤمن بالمثل القائل " رد الصاع صاعين"
! لكنه لم يفقد الأمل "فكهنة" و"شيوخ " اوسلو قد يجدون له وظيفة "مقاتل" او"عضو" او "شرطي" او حتى "مرافق" وبدون ان يكون مرافقا,فالمهم ان يضمن راتبه الشهري وهذا في احسن الاحوال
!
نعم, ان شبابنا اصبحوا بين ليلى وضحاها ضحية لمؤامرة أمريكية- اسرائيلية ينفذها حاكم عربي وشرطي أمن فلسطيني
والنتيجة, ان الشباب اصبحوا فقراء يقفون متسولين على بوابات السفارات بحثا عن حلم ما، قد يفضي يوم ما الى طريق ما ياخذهم الى وطن بديل قد يجدون فيه الحرية والسعادة
! الشباب؟ وقود الثورة حتى النصر، لا؟ حراسها أيضا، نعم، والاف الاسرى والمعتقلين من الشباب في سجون اسرائيل وكذلك في سجون "حماس" و"فتح
وكلنا في سجن واحد كبير
!
"لا تمت قبل ان تكون ندا"
هذه مقولتك الشهيرة وتأكد يا غسان بان ابناء شعبك لم ينسوها, بل على النقيض قاموا بتطبيقها,فهذا"الحمساوي" و"الفتحاوي" يقتل احدهما الآخر وقد اقسموا في "مكة" بالا يموتوا قبل ان يأخذوا بمقولتك هذه
فهنيئا لك
!
لقد سألتني يا غسان عن دور اليسار الفلسطيني في هذه المحنة
آه يا غسان
عن أي يسار تتحدث؟فلم يعد هذا اليسار ذلك اليسار الذي عهدته وكنت انت اكبر عمالقته, لقد طالبناه مرارا بالتدخل وبفاعلية وكانت الفرصة التاريخية واخشى ان يكون فقدها او يكاد
فباسمك نطالبه الآن وقبل اي وقت بقيادة السفينة الى شاطىء الأمان قبل ان نندم حيث لا ينفع الندم
!
شهيدنا غسان,لقد عرف رفيقك ناجي العلي خطا واحدا ولونه احمرا"كلما سألوني عن الخطوط طار صوابي,فانا اعرف خطاً أحمر واحداً، انه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام مع اسرائيل"
لقد تجاوزنا هذا الخط ووقعنا اتفاقية" اوسلو" المشؤومة والتي مهدت للاقتتال الداخلي
ولقد عرف ابناء شعبك الكثير من الخطوط الحمروتجاوزوها جميعا
وكان آخرها الدم الفلسطيني الذي فقد لونه الأحمر بل افقدوه اياه
لقد قمنا بتخطي كل الحواجز الا" المحاسيم"-الحواجز العسكرية الاسرائيلية- والجدار الفاصل والذي نسميه زورا وبهتانا "عنصريا" لأننا وبكل فخر واعتزاز شاركنا في تشييده وذلك دعما لاقتصادنا "الوطني"
!
لقد كتب الاديب الشهيد غسان كنفاني "عن الرجال والبنادق- 1968 "في طلته على المشهد الفلسطيني بعد هزيمة 1967
وبعيد انطلاقة التنظيمات الفدائية على اختلاف علاقاتها والوانها، وقد كثر الحديث عن السلاح والثورة
يبدو ان غسان كنفاني أراد ان يقول شيئا ما عن تلك العلاقة الملتبسة بين الانسان، حامل السلاح، وبين البندقية – الاداة
لذلك، ربما، صب جل نقده اللاذع، وفي معظم ما كتب تقريبا، على ثقافة تقليدية كانت ترى في البندقية أو المسدس مصدرا للتشبيح وللسلطة الفردية وتعويض عن حالة الخصي
لذلك، رسم غسان كنفاني صورة اخرى ومقاتل اخر وسلاحا كان يرى فيه خلاصا جماعيا لشعب النكبة
!
ان السلاح بالنسبة لكنفاني له وظيفة واحدة : تحرير الوطن واسترداده من قبضة العدو
والسلاح، ان كان لازما وضروريا، وهو كذلك، فليكن اذن في خدمة الثورة والجماهير، وليكن ملكية جماعية
لان الدليل الكاذب يمكنه ان يخدع الافراد والرجال ويأخذهم الى الموت في الصحارى لكنه لن يخدع الثورة وكل سكان المخيم
اكثر من ذلك : ان الذي يضل الطريق هو من يملك قرار السلاح ويرشده وليس السلاح وثنائية الخيانة -- البطولة لا تصدر عن البنادق ولا عن الرصاص، فمن وجهة نظر كنفاني، الانسان هو المسؤول وهو الذي يجب ان يعرف ويتسلح بالوعي والارادة ولماذا يقاتل ومن يقاتل وكيف يقاتل، وكلها شروط لازمة تسبق تعلم إطلاق الرصاص
هذا هو غسان كنفاني، بأدبه الحارق
المؤلم
كأنك تضع يدك على ماسورة البندقية الحارة
أو قلمه الملتهب
أو كلماته التي كانت تخترق الوجع كالرصاص
ومجموعة غسان القصصية "عن الرجال والبنادق" من أجمل ما كتب عن نضال أبناء فلسطين، على الرغم من أنهم لا يملكون إلا "مارتيناتهم" العتيقة
وأحياناً
لا يملكون حتى هذه البنادق
ضد احتلال تدعمه أعتى قوى الطغيان في الأرض
!
لقد علمنا غسان كيف توجه البنادق, وها نحن اليوم نوجهها ولكن باتجاه لم يحلم به الشهيد البطل
وجهناها و"بكل فخر" نحو بعضنا البعض ونسينا الهدف التي صنعت من اجله
لو عاش غسّان إلى اليوم ورأى ما جرى بعد اغتياله إلى اليوم لشاهد ما لا يخطر على بال اتفاقيات توقع، وأحلاما تتهاوى،واقتتال داخلي مزق القضية, وانقسام ما تبقى من الوطن الى محميات لا حول لها ولا قوة, لكنه بكل تأكيد لن يفقد الأمل الذي عاش واستشهد من أجله
وسيدرك إلى أي مدى يمكنه أن يقف بالجماهير التي فجرت الانتفاضة الأولى وانتفاضة الأقصى، هذه الجماهير التي لا تكل من العطاء والتضحية على الرغم من مناورات الساسة واتفاقاتهم مع العدو والذي لا يحترم اتفاقاً
واختتم بمقولتك العظيمة يا شهيدنا العظيم "غسان":
لا أرتد حتى أزرع في الأرض جنتي
أو أقتلع من السماء جنتها
أو أموت أو نموت معا
!