* العيد وسّعوه! وانقلوه الى كل بلد! الى كل حي ... الى كل بيت، والى كل كوخ، دافىء حيث ينام سرير صغير
* خير ما يسري في الرجال يعود فيضه الى قلوب الامهات، حبهن وشقائهن. تلك القلوب التي كانت ولا تزال مدرسة الإنسانية الأولى
"من ظواهر التقدير للأم هذا اليوم الذي جعلناه عيداً، تشعر فيه كل أم بانها كائن عظيم معتبر، ولكن متى يكون هذا اليوم عيداً حقيقياً".
شهر آذار حافِلٌ بالأَعياد والمعاني المقدسة فيه يوم المرأة وعيد الأم ويوم الارض الخالد، أُمِّنا جميعاً منها نرضع ومن حليبها ننهل وعلى ترابها نركع ساجدين خاشعين لأننا نقدس دماء شهداءنا الذين ماتوا من اجل هذه الأرض ومن أجل الوطن ومن أجل ان يحيا الاخرون ابناء الشعب الواحد.
عيد الأُم ما هو هذا العيد؟
إنه عيد ذكرى الامومة!
ولا ادري شيئاً يسمو وجوداً، وينسى جحوداً كالأمومة! ولا اعلم مثلاً يغالي في انكار الذات، وفي التضحية بالنفس ثم يهمل هذا المثل العالي، ويطرح في غير مطرح كمثل "الامومة" التي بالغت في العطاء حتى غدت بخيلة، وتفانت في الاحسان، حتى قيل: هو النسيان! .... فيا لَهُ من عيد هو كذلك لميت عزيز!
هناك اشياء شائعة في الحياة، لا يقدرها ابناء الحياة، وهي الحياة كلها! اشياء كليّه رخصت بقدر ما ابتذلت، ونسيت بقدر ما اهملت! فالهواء، والشمس، والماء ... هي كل شيء، في الحياة، ولكن ما ارخصها! وهنالك – عواطف سامية – هي كل شيء، في وجودنا ننساها بقدر ما دخلت في حياتنا وفي مقدمه – هذه العواطف السامية – الامومة؟
اجل! الأم ... ولا اعرف كلمة قدست – في كل زمان ومكان – كهذه الكلمة. قدست حين قيل للأم: - بالآلام تحملين، وبالآلامِ تلدين، وبالآلامِ تربين! ولا اعرف معنى مقدساً كمعنى الامومة في محو ذاتيتها، والتنازل عن كيانها.
قلب في قلوب او كبد في اكباد؟ وحياة في حياة مركبه .... يغمرها الحب حيثما توجهت. ومن ذا ينكر ان خير ما يسري في الرجال يعود فيضه الى قلوب الامهات، حبهن وشقائهن. تلك القلوب التي كانت ولا تزال مدرسة الإنسانية الأولى!
انها مبدعة آلحياة .... يا لها من كلمة جميلة! ولكن العمل ما اشقّه واعظمه! اوليس ابداعها للحياة مرفوقاً بالالم؟ اوليست هي التي تطوي آلامها لتنشر الفرح في بيتها، وزوجها واولادها؟
انها مربية الحياة ... اليس الولد محتاجاً الى معلم؟ فهي مبدعة له ومعلمة تؤهله للحياة نفسها حتى يخرج اهِلاً للحياة ومشقاتها، قادراً على احتمال حادثاتها.
يا لها من مأساة كفاح بين مثلين مختلفين! فهؤلاء العباقرة طالما تدفأت اقدامهم على ايدي امهاتهم صغاراً. حتى إذا كبروا ادفأت العبقرية نفسها أيديهم المجعدة.
اما الأم فلا يمجدها ولدها إلا بنسيانها، الولد له العمل وله الوجود كله. والام ليس لها إلا الولد الذي طالما فرَّ منها .... قد فتحت له طريق الحياة، واملها كله في ان يسلك سبيل الرفعة دائماً ... دون ان تعترض نفسها عليه ودون ان تقاسمه امجاده. إنها تبتهج بمحبتها وتضحك لحنانها ... ثم تحتار ... ثم تَسكت ... ثم تلجأ الى المحبة وحدها!
ولكن ... هذا الكائن كيف عاملناه؟ هل تمثلنا هذه المنزلة للأم؟ وهل اعترفنا لها بالدور الذي تمثله؟
واذا كانت الام مربية الجيل، فأي جيل ستنشئه هذه الأم الجاهلة، السجينة العمياء التي تعيش منكمشة، مطوية على نفسها في ظلمات بعضها فوق بعض؟
ألا اي جيل يخرجه هذا المخلوق المحكوم عليه، "بالسجن الابدي" منذ كان، يخاف رعشة النور، ويهرب من آفاق الحرية؟
جيل "هؤلاء الاطفال المرضى المشردين" الذين يحملون الجراثيم الى مجتمعهم منذ يولدون ضحايا هذه الام! ولكن هذه الام أليست هي ضحية هذا المجتمع القائم!
أُم بدون غذاء، ولا نور، ولا عافية هل تلد الا جراثيم للبؤس والمرض والجهل؟ فماذا أعددنا لاستنقاذ هؤلاء الامهات؟ وماذا اعددنا لهنّ لتكون حياتهنّ بهجة وفرحاً وولادة؟
إننا نقول: هي مبدعة الحياة .... ما اجملها كلمة وما أشقاها! ولكن هل ساعدنا "مبدعة الحياة" على الابداع؟ ان لم يكن لنفسها فلأنفسنا؟
اذا أردنا ان ننقذ اطفالنا، وتربيتهم – للجيل الآتي – أقوياء فلنأخذ بيد الام! هذه الام البائسة التي طالما رأيتها تحمل ولدها على ظهرها ... وقد استحالت الامومة في وجهها بؤساً وبأساً، كيف تعمل هذه الام على ان تنشىء اطفالاً اقوياء باسمين للصعاب، وهي التي تربيهم بين دموع هاتنة؟ تمشي الكآبه المخيفة، واليأس الصاعق الى صغارها ... لان اليد التي تهز اسرّتهم هي يد ناحلة، مرتجفة، مرتعشة، والعين التي ترعاهم جامدة، باهتة إلا من لمعان شاحب هو الظلام نفسه، فهل عملنا على مسرة الأم؟ لتمشي واسعة الخطى، ضاحكة العين، للتضحية والواجب بدون ان تتألم في مظهر الألم نفسه؟ وهل عملنا على استنقاذ هذه الضحايا التي تخنقها الأم الجاهلة – كل يوم – بيديها، وهي تظن ان حبها حب خالص؟
هل نستطيع القول: ان امهاتنا قادرات على التمثل بهذه الكلمة العالية:
ان جيلنا خلق لكي يشتري الوطن: رجاله بما يبذلون من دمائهم، وامهاته بما يبذلن من قلوبهنّ ....!
ومن عسى يعلم هذا المثل إلا أم واعية؟
ليس العيد حقاً لهذه الفئة من الامهات المترفات المنعمات. لان مثل هذا العيد عندي هو رقص القوي بين قبور ضحاياه ...
اريد ان يدخل عيد الأمهات في زوايا بيوتنا المظلمة، الى قلوب امهاتها.
اريد العيد – لا في الحفلات – بل اريده عيداً في كل بيت تبزغ فيه امومة، ويصيح فيه طفل صغير.
عيد الأم في علبة حليب لطفلها، في حياة صحيّة لها، في وصايا عمليّة تعمل بها. في مستشفيات مجانيّة تخدمها وتخدم اطفالها.
عيد الأم في جملة اجتماعية لإستنقاذ الأم، والإحتفال بها كما تصنع الأمم الراقية ... هذا هو العيد: ايتها الأم! فمتى يكون لك كهذا العيد أيتها الأم القاتلة المقتولة!
هذا العيد وسّعوه! وانقلوه الى كل بلد! الى كل حي ... الى كل بيت، والى كل كوخ، دافىء حيث ينام سرير صغير! لأنه اسمى الاعياد وانبلها! تفنى الاعياد كلها ولا يفنى عيدها. لانه عيد تشترك فيه الإنسانية كلها. وليس كمثله عيد يعلّم التضحية ، والحنان والاحسان والمحبة، ويمحو الضغائن والأنانية العدوة للإنسانية.
كلما نظرت الى وجه الأم الكئيبة! شف لي من ورائه وجه الأمّة الكئيب! لان – في وجه امي أرى وجه أمّتي ... فلنمحِ مخايل الكآبة على وجه الأم الحزينة نخلق جيلاً مرحاً ضاحكاً، جديراً بالحياة، ولنرفع الامومة ... نبدع الجيل المنتظر.