قطع غيار.. نَصٌ من نص
بهاء اليوم على غير عادته. بهاء البشوش الصاخب يعتكف حزينا في ظل الشجرة شارد الذهن مكافحا دمعه، فدمع الرجال عورة. بهاء اليوم حزين، ولن ينسه توم وجيري حبة من حزنه.. وهو الآن غاضب ولن تطفئ حبة الآيس كريم ذرة من غضبه..
انسحب الزملاء تباعا وقد يئسوا من جدوى ارضائه. كُرته الملونة كانت الأكثر عنادا. قفزت الى حجره محاكيةً جرحه بدفئ أم. ألحت عليه أن يأخذها مشوارا جميلا. يئست أخيرا. انكمشت على ذاتها وتدحرجت بهدوء خجول من حجره وما ردّها..
مربيته أيضا كانت مرتبكة: أيمتلك طفل في الرابعة كل هذه القدرة على الحزن؟ على الغضب؟!
لو أنها تنازلت قليلا عن ارتباكها الأبله، ولو كانت أفطن بشعرة فقط لربطت فورا بين حزنه وحزن دنيا في الطرف الآخر من الساحة. لكنها – المربية- لم تربط، لا فورا ولا بعد حين.
وحده بهاء حاول أن يحل اللغز: بالأمس فقط لعبنا معا. كانت أوقاتا حلوة. فلمَ ترفض اليوم أن تلعب؟ أنا أمس لم أزعلها، والله العظيم ما زعَّلتها. فما الذي حدث؟ ومن قال لأمها بأن لعب البنات بالكرة عيب ومع الأولاد حرام، وبأن عقابه النار؟!
**
لم يفارق بهاء حزنه عند بوبابة الروضة كما ظنت المعلمة. رافقه الحزن في طريق العودة الى المنزل. ظل صامتا مطرقا، دون أي يعير شقيقه الأكبر، حازم، أي انتباه.
كان التجاهل متبادلا، بينه وبين الشقيق الذي عرّج الى حضانته في طريق عودته من المدرسة لمرافقته.
مرت دقائق طويلة من الصمت، قطعها بهاء، سائلا بتردد كبير، كأنه يخاطب نفسه:
- إن قصّت دنيا شعرها، هل ستسمح لها أمها بلعب الكرة معي؟!
- وما العلاقة؟! سأل حازم مستغربا جادا.
- يعني ألن تصبح رجلا، يُسمح له بلعب الكرة مع الأولاد؟!
- لا، هذا لن يكفي.. أجاب مستخفا، وابتسم بمكر لتحمرّ نثور الفتوّة المراهقة في وجهه، وأضاف بشقاء يفيض هورمونات: بدها بيظ!
- شو بدها؟
- يعني حمامة يا حبيبي، حمامة!! وقام بحركة مشينة خدشت حياء بهاء لتعيده الى عزلته..
**
لم يخلع بهاء حزنه عند مدخل الدار، كما الحذاء، كما ظن الشقيق الأكبر. ولم يسقط في الحمّام، بل وجلس لتناول وجبة الغداء مع العائلة. بهاء بالكاد يأكل والأم تلح دون فائدة، فالحزن أحكم القبضة على فكيه. نهض حازم الى غرفته، ثم أبوه الى صُحفه، وظل بهاء يموّج الطبيخ بملعقته الصغيرة. نهضت الأم أيضا، تغسل الآنية، وبالها منشغل بما يشغل بال عصفورها الصغير، فقد خاب توقعها بأن يسقط الحزن ويغرق في صحن الملوخية التي يحب.
لن تفرحه الا المفاجأة، قالت لذاتها وسألت:
- إحزر أين كنا اليوم يا حبيبي؟!
- ...
- كنّا في الدكان، نسأل عن مصير الطلبية، فطمأننا البائع بأن أخاك سيكون جاهزا خلال ثلاثة أشهر، وبأنه سيكون قمرا مثلك بالضبط. لكنك ستكون أشطر.. فأنت ألأكبر، صح يا حبيبي؟!
الفأر لعب بعب الوالدة عندما لم يستجب الطفل لاغرائها، لكنه أجاب بعد هنيهة سائلا، وليته ما سأل، فقد كاد يصعقها بتمتمته الحالمة:
- أتستطيعين في زيارتك القادمة اليه أن تشتري لي حمامة ؟!
كادت الصحون تفلت من قبضتها، وقد ركبها ارتباك مجنون. لكنه زال، وتسرب ضحكة ماجنة بعدما تأكدت بأنه لا يرغب بالحمامة لنفسه، وسمعت القصة كلها، فاحتضنته بدفئ:
- طبعا، طبعا يا حبيبي، ولكن شريطة أن تجمع أنت ثمنها في حصّالتك..
**
إن كان تعهد الوالدة هذا ما قد سدد الضربة القاضية لحزنه، فإن ابلاغها له بأنهم سيزورون بالغد دار خاله، قد قتله نهائيا.
يصعد مسرعا الى غرفته، باحثا عن الحصّالة. يجدها بسهولة، يمسحها، يلمعها بدفئ، ويضعها في مركز الرف المثبت فوق سريره، فوق رأسه مباشرة. يبدأ البحث عن النقود في جيوب ملابس والديه، تحت الأريكة، خلف المكتبة وفي الجوارير.. يقضي ساعات بالبنبش والتنقيب، ثم يحمل حصالته برضا بعد حين، يقربها من أذنه، يرجها، يسمع رنين النقود، يبعدها قليلا عن وجهه وكأنه يزنها، يعيدها الى الرف برضا وكأنه أنهى المهمة وصار بالطريق الى مهمة جديدة. لكنه لن ينجح بالانصراف، يشطب كل البرامج الأخرى، يتلقف الحصالة من على الرف ثانية، يحتضنها ويندس في سريره. يأخذها معه الى ما تحت الغطاء ويحكي لها، كيف سيسمح لدنيا أن "تجوِّل" عندما يلعبان في المرة القادمة، فهي بنت وهي ضعيفة وحرام.. آه، صح لكنها لن تبقى بنتا بعدما نشتري لها الحمامة. دوّخته دوامة الأفكار، فنام دون هز لتنجح الخطة: ها هو النهار يمر بأسرع مما توقع ويسحب معه المساء، ليأتي صبح جديد ومعه زيارة دار خاله، زيارة أولاد خاله وجِمالهم وحَلالهم..!
**
إن كان تعهد الوالدة ذاك بشراء الحمامة هو ما قد أثار حفيظة الوالد، فإن قرارها المنفرد بزيارة دار شقيقها قد أخرجه نهائيا عن أطواره. إنه يكره زيارة شقيق زوجته، ليس فقط لأنه يكرهه هو، إنما قلقا على سيارته الجديدة من الخوض في كثبان صحراء النقب، الى قرية وادي المشاش، غير المعترف بها، وهي القرية المظلمة العطشى بلا ماء ولا كهرباء. هي المعزولة دون طريق أو عنوان.
- هذه المشاوير ستهلك السيارة، قال في الطريق بغضب متجاهلا العرس الذي يقوم به بهاء في المقعد الخلفي، نظر اليه بعصبية بالمرآة الأمامية، وأضاف: وستهلك أخلاق بهاء أيضا، فهو هنا ينسى كل ما نربيه عليه.
يتأفف ويزبد وأما الوالدة فظلت صامتة، صمت ما قبل العاصفة، عاصفة ذكية التوقيت تنتظر انفرادها بالزوج، بعيدا عن أسماع وأنظار الطفل!
بهاء الذي ميّز عن بعد براكية دار خاله، أخرج رأسه من الشباك، ملوحا لأصدقائه، وكاد لشدة الفرح يقفز غير آبه بالشرر المتطاير من أعين الوالد.
يضرب أصول الضيافة والاستضافة بعرض الحائط، فلا يسير الهوينى، خلف أمه، خلف والده ولا يصافح الخال ولا زوجته، انما ينضم الى الخلان وينطلق واياهم في رحلتهم الصحراوية، بين الأغنام والجمال..
يبتعد الأطفال عن المنزل قليلا، والقليل يكثر، وهناك، ينتبه لقطعة معدنية صدئة تشده وتأخره عن أبناء خؤولته، ينبش التراب عما دفن منها، يمسحها متسائلا عن كنهها، عما في جوفها، أأجد فيها الخارطة المؤدية الى الكنز، سأل حالما..
**
بُم..
دم ودخان ودم..
**
- إإ.. اتـ.. اتصلوا بالاسعاف، يصرخ أبو حازم بهستيريا ويحمل طفله المغمى عليه بين ذراعيه متفقدا حاله.
- أي اسعاف وأي بطيخ في هذه الصحراء الخاربة، صاح أحد سكان القرية ودفع الوالد الثاكل والجثمان الى أول سيارة وشغلها منطلقا كصاروخ.
ولولة النساء تشق السماء وأما الأطفال فأخرستهم الصدمة، لاكهم الذعر. لم تقفز الصدمة عن الشبان، عن الرجال، فبكوا، بل وبعضهم انتحب كالأرامل. بعضهم لطم وجهه، لطمه والله الشاهد الشهيد.
كان بين الجمع شيخ، وكان الأشبه بالصحراء، بلونه ورائحته وبالخطوط المتعرجة في جبينه. لو شاهده باحث أحياء لسمّاه دون تأخير "حرباء الصحراء". مشّط المكان بعينيه الجاحظتين، بامتعاض وصل حد الاحتقار. تنحنح وقال منتهرا، بلا تأثر:
- وحدوا الله يا جماعة، وحدوا الله.. قل لن يصيبكم الا ما كتب الله لكم. وحدوا الله، وحدوه هو الحي القيوم.
فهم الشباب بأن مدة الواو بالقيوم والتشديد الصارم على الياء بها ما كان سدى. فهموا الرسالة. بدأوا نصب خيمة العزاء..
**
- يعني ألم تجد لها يوما غير هذا اليوم، ألن تشاركنا الحفل؟!
- بلى يا حبيبي بلى، لكننا خفنا أن يبيعه البياع لغيرنا إن تأخرنا، على أي حال فهي لن تتأخر. الآن سآخذك الى الدار، ستنام قليلا لتملأ بطاريتك، ثم أعود أنا وهي وعصفورنا الصغير..
- اتفقنا، قال فرحا بخروجه لأول مرة من المستشفى بعد ثلاثة أشهر، وقد خال وكذا عائلته بأنه بدأ يعتاد وضعه الجديد: الاكتفاء بذراع واحدة، بعدما بتر الأطباء ساعده الأيمن.
في ذاك اليوم الأسود قال الطبيب المناوب لوالده "تأخرتم كثيرا، بعض الدقائق كادت تودي بحياته، لكنها قد أودت بذراعه على الأقل.."
في الدار، استلقى بهاء في سريره وغطاه أبوه. طبع قبلة على جبينه وتعهد بالعودة بعد دقائق مع الوالدة والشقيق الرضيع.
- حازم في غرفة الحاسوب، اذا احتجت شيئا ناده ولا تتعب نفسك.
- حاضر بابا..
غادر الوالد الحجرة مغلقا الباب خلفه. تفقد بهاء جو الغرفة متأملا بعض التغييرات الطفيفة. وفجأة تذكرها، مط رقبته، الى ما فوق رأسه بالضبط، فوجدها كما هي في وسط الرف.
أبرقت عيناه.
كهربته المفاجأة.
تحسس العضو الناقص في جسده.
اشتعلت الفكرة في رأسه.
فزّ من السرير. تدلى من الشباك.
كاد يفقد التوازن.. كاد يسقط، سقط..
لا، لم يسقط..
- بابا بابا لحظة..
هبط بسرعة. كان يلهث. كاد اللهاث يأتي عليه.
يحاول عبثا استرداد أنفاسه. ناولها لوالده:
- إ..
اشـ..
اشتروا لي
ذِ..ذِرا..
حمامة!!