- الشيخ خالد مهنا:
* في ارض أجدادي بيارات وحقول ومنازل لا يزال بعضها شما شامخا
* كم اشعر اليوم أن أتعلق بشجر توتك كما يتعلق طفل بقطعة حلوى.. كما تحضن الأم وليدها الغائب
* يا صفد الشباب ..يا قسطل الفيحاء.. منذ زمن طويل لم أشم رائحة ترابك وهوائك.. لم أزرعك منذ فترة شمسا في رأس الورقة
في القدس..في يافا..في صفد وطبريا وحيفا..في اللد والرملة..في الريحانة في الدامون في الجلمة،... كنت وكانت لي في الجنوب والشمال..في ارض أجدادي بيارات وحقول ومنازل لا يزال بعضها شما شامخا كنا بها كما قال الشاعر محمد صيام *كنا بها نحيا حيا دونها ما في الخيال حرية ورضا وعيشا ناعما وهدوء بال ثم استدار لنا الزمان وأمعنت فينا الليالي نفيا وتشريدا وطعنا بالأسنة والنصال*........ هنا في صفصافة وعين غزال والمنصورة وقمبازة..آه ما أحلى أسماؤك...آه كم اشعر بالحاجة إلى النطق بها هذا اليوم...
آه كم اشعر اليوم أن أتعلق بشجر توتك كما يتعلق طفل بقطعة حلوى..كما تحضن الأم وليدها الغائب....
يا صفد الشباب ..يا قسطل الفيحاء.. منذ زمن طويل لم أشم رائحة ترابك وهوائك..لم أزرعك منذ فترة شمسا في رأس الورقة.. لم أتدفأ في طوابينك..
واليوم لقد راجعت وصية اللاجئ التي كتبت:
"من خيمتي تلك التي صمدت على مر السنين ...
كالمارد الجبار في وجه الحوادث أجمعين"
حيث تضمنت هذه القصيدة لوعات وحسرات وشوق وحنين يبكي الجمادات:
أنا يا بني غدا سيطويني الغسق لم يبق من ظل الحياة سوى رمق
وحطام قلب عاش مشبوب القلق قد أشرق المصباح يوما واحترق
جفت به آماله حتى اختنق فإذا نفضت غبار قبري عن يدك
ومضيت تلتمس الطريق إلى غدك سلبوه آمال الكهولة والشباب
نكبة اخرى
اليوم ورحلة التهجير القسرى من اجزم و أم السحالي والبطيمات والسنديانات وجبع والحميرية وجنيزة وأم العلق ورأس علي وصرفند وعين حوض والطنطورة والكبابير والكفرين والمزار وهوشه....
تهاجمني.. تحاصر نوافذي, اشعر بحاجة الى غطائها.. معطفها وغطائها المنسوج من زهر البرتقال والليمون وطرابين الزعتر البري ..
اليوم ونحن نعاصر نكبة اخرى وننتقل من سماء إلى سماء.. ومن خيمة إلى خيمة.. ومن ملحمة إلى ملحمة.. ومن محنة إلى اخرى تهيج في القلب لواعج الشوق فننشد شعرا:
دار ووطن..
( كانت لنا دار وكان لنا وطن
ألقت به أيدي الخيانة للمحن
وبذلت في إنقاذه أغلى ثمن
بيدي دفنت فيه أخاك بلا كفن
إلا الدماء وما ألمَّ بي الوهن
إن كنت يومًا قد سكبت الأدمعا
فلأنني حمِّلت فقدهما معا
جرحان في جنبي ثكل واغتراب
ولد أُضِيع وبلدة رهن العذاب
تلك الربوع هناك قد عرفتك طفلا
يجني السنا والزهر حين يجوب حقلا
فاضت عليك رياضها ماءً وظلا
واليوم قد دهمت لك الأحداث أهلا
ومروجك الخضراء تحني الهام ذلا
هم أخرجوك فعد إلى من أخرجوك
فهناك أرض كان يزرعها أبوك
قد ذقت من أثمارها الشهدَ المذاب
فإلامَ تتركها لألسنة الحراب
حيفا تئن أما سمعت أنين حيفا
وشممت عن بعد شذى الليمون صيفا
تبكي إذا لمحت وراء الأفْق طيفا
سألته عن يوم الخلاص متى وكيفا
هي لا تريدك أن تعيش العمر ضيفا
فوراءك الأرض التي غذت صباك
وتود يومًا في شبابك أن تراك
لم تنسها إياك أهوال المصاب
ترنو ولكن ملء نظرتها عتاب)
شوق...
اه دنة..اه عجرة..اه شطة..اه مرصص..اه فرونة..اه قومية..... لم اعد قادرا ان احبس نفسي عنك..لم اعد قادرا على أن احبس اسمك في حلقي..لم اعد قادرا على حبسك في داخلي مدة أطول "لأسباب دبلوماسية". ماذا تفعل الوردة بعطرها؟ أين تذهب الحقول بسنابلها والطاووس بذيله، والقنديل بزيته؟
اين اذهب بك وأينما أطوف تطوفين معي؟ أين أخفيك وكل من يعرفني يرونك في إشارات يدي...في نبرة صوتي..في إيقاع خطواتي..في حزني والمي ودموعي..في فرحي وآمالي وتر حالي..
من رائحة ثيابي يعرف الناس انك قلبي..من رائحة جلدي يعرف الناس انك كنت معي وقد قضيت نهاري في مرابعك اقطف الجعدة، والهليوم،والزعتر، والزعمطوط واللسينة،والخبيزة،والعلك، والنعناع البري والحويرةوالعكوب واللوف.... من خدار أصابع يدي يعلموا انك كنت نائمة عليها....ومن بشاشتي وجهي الصباحي يعرفون أنني ذاهب لموعد معك....
يشتد شوقي إلى تل الشوك والساخنة وخربة الحكمة وكوكب الهوا أنادي بأعلى صوتي ..أعطيني قطرة من زيت قنديلك كي أعطيك القنديل.....
خذيني إلى أحجارك المملوءة بالسحر آخذك إلى المدن المسكونة بالدهشة...
لقد ظن الناكب أننا بعد فترة وجيزة سنستقيل ونعتزل الحنين للاشرفية والسامرية وجسر المجامع واللجون والريحانية وابو زريق وأبو شوشة وأم رشرش وأم خالد،وان نغلق دونها الأبواب والنوافذ، ونغمد السيوف ونودع الخيول....وظنوا أنا وإنا .....
62 مرت ولم نأخذ إجازة وبقي حلم التحرير والعودة يقتحم الأنفاس كل آخر ليل مثل صفير المراكب..... 62 عاما مر على نكبتنا قد عرفنا ألف حب بعدها غير أنا ما وجدنا امرأة أكثر سحر منها.....ما وجدنا وطنا أكثر تحنانا ، ولا ارحم صدرا منها.....
هذه الأرض من الماء إلى الماء لنا ...ومن القلب إلى القلب لنا...ومن ألاه الى ألاه لنا....وسنبقى معجونين في كل ذراتها.....نحن هذا اللؤلؤ المخبوء في أعماقها...نحن زيتونها وتينها وسنديانها ونخلها...نحن القمر والنجوم الغافية على شرفاتها...وهي المسك المبحر في دمنا والمنارة التي تضيء غدنا....وهي قلب آخر في قلبنا..باقون بهاو سنقطع يوما الكف التي ضربتها.....
هنا على صدورهم باقون، كالجدار...نجوع نعرى..نتحدى...ننشد الاشعارونملا الشوارع الغضاب بغضبتنا...نملا السجون كبرياء ونصنع الاطفال..جيلا ثائرا...وراء جيل....وإذا ما عطشنا سنعصر الصخر....
يحكى ان:
(في صبيحةِ يوم ٍ بارد ٍ من فصلِ العواصفِ و المنحنياتِ, اتفقَ أن اجتمعَ سبعة شبان داخل منزل تعود ملكيته الأصلية إلى شجرة زيتون.
كان المنزلُ كبيراً. و كان رغم التصدعات و الإصابات جميلاً في عنفوان..غير أن الخلافات التي وقعت بين الشبان, خلعت المزيد من نوافذه الكثيرة, تعاونها رياح التخبط و الأهواء.
حين تحطَّمَ بعض الأثاث الثمين و النادر.. بفعل إعصار غريب دخيل.. تدافعوا و زعمَ كلٌّ منهم أنه ورثه عن الزيتونة الأم..و أن جذور أحفادها تشهد له على ذلك..
اقترحَ أحدهم أن يتشاركوا في تصليح الأثاث المُهشّم و الأبواب المتطايرة و الشبابيك المختنقة والجدران الآيلة للسقوط و السقف الذي تتدافع منه زخات الخوف..
راقت لهم الفكرة , لكن أحدا منهم لم يتمكن, رغم المحاولات البائسة, من دق مسمار بوضع صحيح, في طاولة مهشمة..تشتاق الوقوف المريح على أربعة أرجل أو حتى ثلاثة..
فعادوا إلى خلافاتهم المستديمة, التي كانت تتوقف, أحياناً , بسبب الثلوج المتساقطة, و نظراً لارتعاش أجسادهم أمام الأعاصير و دبيب القرِّ و هجمات الصقيع.
سارعوا إلى نزع الستائر المتبقية, التي طالتها يدُ التمزيق..التفّوا بها , و ظلّوا يرتجفون و يتصايحون..إذ كان البرد القارس شديدا..
قال أصغر الشبان عمراً : - خذوها مني يا جماعة! الحل الناجع يكمن في استخدام خشب النوافذ و المقاعد و الطاولات كوقود نتدفىء به.. فنشعر بالأمان.
استحسنوا الاقتراح
استحسنوا الاقتراح .. و أضرموا النيران في الحطام..أحسوا بالتحسن, و أخذوا يتسلون في لعب الورق و يطلقون النوادر.. و في الخارج كان كل شيء ينذر بعواصف أكبر و أقوى و أشد تخريباً..
بقوا على حالهم هذه عدة أيام , حتى وجدوا أنفسهم في مواجهةِ الرماد.. و البرد الذي عادَ ينخر أجسامهم بسهامه المتجمدة.
ساد صمتٌ.. و اشتعلَ الترقبُ, و رمتِ المخاوفُ ظلالها..إلى أن سمعوا أكثرهم نزقاً يقول:- اسمعوا يا شباب! ما عاد لنا سوى شجرة السنديان الكبيرة , نجعلها حطباً في موقد.
قال أحدهم:- لا..هل تقصد شجرة السنديان التي في الحديقة..أنا أخاف الاقتراب منها, سمعتُ من جدتي أنها شجرة مباركة و مقدسة.. و قيلَ أنها كانت تخفي في أحشائها المطاردين…
لا تخف.أنا أخرج إليها.. أعطوني هذه الفأس..
ترددَ النزقُ قليلا , تمتم بكلمات غير مفهومة ثم َخرج , و هوى على الشجرة بفأسه.. و ظلَّ يضربها حتى وقعَ مغشياً عليه دون أن يظفرَ سوى باقتلاع بعض أوراقها..
صوت وحيد واضح
حين تأخَّرَ صاحبهم, ذهبَ ثلاثة من الشبان لتفقده..حملوه إلى داخل المنزل. لما أفاقَ الشاب النزق, سردَ لهم ما وقع من أمره مع السنديانة العنيدة.. كان غاضباً و عصبياً إلى درجة أنه أسرعَ إلى القبو و أحضرَ من هناك, كميات ٍ كبيرة ٍ من "الديناميت" و عادَ يزعق:- سأنسفها نسفاً .. تتركنا للعواصف و لا تستحق النسف!
اعترضَ أربعة شبان على موضوع تفجير الشجرة الحارسة.. لكن الهواء البارد الذي كان يصفع وجوههم و أطرافهم..جعل أصواتهم غير مسموعة..مما جعل الصراخ الفتي الأهوج يختلط مع صرخات خضراء, الصوت الوحيد الواضح الذي انطلق مدوياً, و اهتزَّت له أرجاء المكان و صوره و ملامحه كان صوت الانفجار الحزين..
تساقطت الأغصان النبيلة, و أُزيلَ الجذعُ الصلبُ .. و أُدخلت السنديانة الكبيرة, بعد مشقة منهم في حمل كنوزها, لتغدو حطبا في مواقد الفلتان..
نمل وجراد
سبعة شبان يتكومون حول النار الموقدة…يتحلقون حولها بعد نسفها من جذورها..بعضهم أعلن ندمه, و كابر البعض الآخر..
هدأت العاصفة قليلا..فقرروا ترك المنزل لقضاء حاجاتهم و تفقد عوائلهم..و لم تنقطع صيحات الخصومة على الطريق. .لكنهم, عندما وضعوا أولى خطواتهم خارج المنزل وقفوا متسمرين مذهولين , لا يلوون على شيء..! كانت السنديانة في مكانها, نفس المكان في الحديقة ..لم ينقص الاخضرار شيئاً.. النسغُ المشرئبُ يضيء الصدورَ, كلها كانت هناك منتصبة و شامخة تتوهج).
نعم لقد افلح مكرهم باقتلاعنا من أرضنا بعد أن تسربوا كالنمل والجراد من عيوبنا وآفاتنا......ولكن لم يسدل الستار بعد عن حكايتنا القديمة....ولأننا السنديانة وأشجار التوت،واللبلاب والصفصاف فيقينا سوف نطلع من جديد من الخراب....سنطلع ألف سنديانةوزيتونة من فسحة الدار ...من مقابض الأبواب...سنظلع من رائحة التراب نفتح أبواب منازلنا، ندخلها من غير أن ننتظر الجواب..فانا الفلسطيني هل تعرف من إنا؟؟
السؤال والجواب
إنا السؤال والجواب ،فكحل جفنيك يا جبل اسكندر ويا جبل طابور ويا جبل الكرمل ويا جبل المكبر الذي تفشى شذاه تحت جلدنا كأنه الزيزفون...قادمون إليك من كل المدائن...فاحتضني ولا تناقش جنوني...احتضني مئة ألف وألف ومع الضم لا ينبغي السكون....