* أسطول الحريّة مواقف متغايرة ومبررات متباينة
* من الممكن أن نضيف لهؤلاء الخاسرين إن شئنا، سلطة رام الله، التي استكثرت الشجب والاستنكار "والحداد" لمدّة ثلاثة أيام، مع استمرار المحادثات مع الجانب الإسرائيلي، بعذر أقبح من ذنب
ليس غريبا ردّة فعل المؤسسة الإسرائيلية على مشروع كسر الحصار عبر أسطول الحريّة، فالمؤسسة الإسرائيلية تعمّدت فعل ذلك وإن توقعت أن تفعله في خسائر أقل ممّا حدث، لأن للمؤسسة الإسرائيلية تفسيرها ورؤيتها الخاصّة بالأمور، فهي تريد أن تبرهن للعالم أنّها ما زالت تملك زمام الأمور والقرار بما يخصّ حصار غزة وأنها صاحبة الحلّ والعقد و"الشور والمون"، ولا يمكن لأحد أن يكسر هيبتها وقرارها وكبريائها، فالغاية تبرر الوسيلة، وكلّ شيء متاح لها فعله، ما دامت أمريكا داعمة لها وحضنا حنونا لها
فالمؤسسة الإسرائيلية الخاسرة الأكبر من هذا التصرف، على المستوى الإعلامي، والمستوى السياسي المحلي والدولي، ولعل ما كتب ويكتب في مواقع الأخبار الإسرائيلية من مقالات وآراء يفسر مدى الانعكاس السلبي لهذه العملية في الشارع الإسرائيلي الذي بدأ يعي أبعاد وسلبيات ما اقترفه قادتهم
وبما أننا بدأنا نتكلم عن ميدان الخاسرين، فلا بدّ لنا أن نعرّج على خاسرة أخرى، ألا وهي دولة مصر، التي رأت تركيا قيادة وشعبا يتفوقون عليها بالتفاف الملايين حولهم وبقيادة ملف كسر الحصار عن غزة، التي مصر شريك أساسي فيه، فالدماء التي سالت، أحرجت النظام المصريّ، الذي يعيش حالة احتقان واحتضار سياسيّ، بالإعلان عن فتح معبر رفح أمام المساعدات الإنسانية، فلا بأس أنها تذكرت أن أناسا يموتون جوعا ومرضا بسبب إغلاقها المعبر، فمصر بعد أن كانت تدير ملف القضية الفلسطينية وتتصدر زعامة العالم العربي، بدأت تفقد هذا الدور فالمملكة العربية السعودية وقطر أنجزتا – ولو قليلا – بفترة قصيرة ما لم تنجزه مصر خلال سنوات طويلة، في ملف المصالحة الفلسطينية، وها هي ترى الحكومة التركية تأخذ زمام قيادة ورعاية ملّف القضية الفلسطينية منها، تاركة إياها في دائرة الخاسرين، والمتهمين بالمشاركة بالحصار الفعلي على غزة، فالنظام المصري فقد كلّ أوراقه في المنطقة، وأصبح ضعيفا أكثر من أيّ وقت سبق ولا تملك أيّ قوة تأثير على ما يجري من أحداث، فلا يفسرّ قرارها بفتح المعبر ،(من ناحيتي على الأقل)، إلا بسببين، ألأول: أنها أرادت تخفيف وطأة العار والإحراج الذي لحقها جرّاء حادثة الأسطول، وتعالي الأصوات عالميا بكسر الحصار متجاهلين مصر من ذلك، وزيادة الغضب الداخلي والعالميّ عليها على إثر مشاركتها العلنية بالحصار
والثاني: أنها بفعلتها تلك، أرادت مدّ طوق النجاة للمؤسسة الإسرائيلية، التي وضعت نفسها في الزاوية جرّاء تصرفها الغبي بالاعتداء على أسطول الحريّة، فالنظام المصري والمؤسسة الإسرائيلية شريكان بالحصار، فبفتحها المعبر ودخول المساعدات من خلاله، من الممكن أن يساعد المؤسسة الإسرائيلية بتخفيف الضغوط عليها والهجمات الإعلامية التي تواجهها
وطبعا، من الممكن أن نضيف لهؤلاء الخاسرين إن شئنا، سلطة رام الله، التي استكثرت الشجب والاستنكار "والحداد" لمدّة ثلاثة أيام، مع استمرار المحادثات مع الجانب الإسرائيلي، بعذر أقبح من ذنب، بأنّهما أمران منفصلان، فسلطة رام الله شريكة فعلية ورسمية في حصار قطاع غزة، فليس من مصلحتها وصول أسطول الحرية لميناء غزة وكسر الحصار لأنه سيصب في مصلحة حركة حماس ويعتبر نجاحا للحكومة هناك على حدّ اعتباراتها، لأنها بصمودها وثباتها استطاعت كسر الحصار، ولم تخضع لويلاته وتبعاته، فسلطة رام الله ترى أن بإمكانها أن تربح وتضعف من شعبية حكومة غزة، حينما يشتدّ الحصار، وأن يفهم الناس هناك على طريقتها أن سبب الحصار هي حكومة حماس، فما لكم يا أهل غزة من حلّ إلا بإضعافها والثورة عليها، فهذا جلّ ما تتمناه سلطة رام الله
وأما جامعة الدول العربية، قد اجتمعت على مستوى وزراء الخارجية، ويا ليتها ما اجتمعت، فحتى مصطلحات الشجب والإدانة قد حذفت من قاموسها، وتمّ رفع الأمر "لسيدتهم الكبرى" لتحلّ الإشكال، فهو أكبر من حدود مسؤولياتهم، "فرحم الله امرءا عرف قدر نفسه"، وتناسوا أن دولا أعضاء في الجامعة هم شركاء فعليّون ورسميّون بالحصار، فكان عليهم، أولا أن يتوجهوا للنظام المصري ويطالبوه بفكّ الحصار وفتح معبر رفح من دون قيد أو شرط
وأما قادة تلك الدول فقد أطبق عليهم الصمت المخيف، فصدق من قال: "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من عرب"
وأما تركيا، قيادة وشعبا، أثبتت للجميع أنه رغم عشرات السنوات من العلمانية، إلا أن الفطرة الإسلامية ما زالت تسري في عروقهم والعزّة العثمانية لا تفارق ذاكرتهم، فالحكومة التركية، بخطواتها الحكيمة والذكية، تحافظ بدبلوماسية فذّة، بأدوار مختلفة، على علاقاتها بكلّ المسارات، فهي تؤدي دور الوسيط مع إيران، ودور الداعم والحاضن للقضية الفلسطينية، ودور المنفتح الإصلاحيّ مع الاتحاد الأوروبيّ، ودور المتلاحم مع هموم شعبه والراعي لهم
فهي مازالت تمسك بكلّ الخيوط لا تفلت أحداً منها، فيوما بعد يوم تزداد شعبيتها ومحبتها في قلوب الشعب التركي، وليس فحسب، بل تخطّت شعبيتها كلّ الحدود، لتطرق كلّ باب بيت في العالمين العربي والإسلامي لتدخل القلوب قبل البيوت، ممّا قد يؤجج غضب بعض الحكومات العربية الفاشلة، التي ليس غريبا عنها، أن تدبرّ وتكيد لتحدّ من تلك الشعبية
فالحكومة التركية على يقين أن ما حمل أسطول الحرية من مساعدات لا يكفي لسدّ ولو القليل من احتياجات الأهل في غزة المحاصرين، وأنها حسبت حساب اعتراض الآلة الحربية الإسرائيلية للأسطول ومنعه من مواصلة إبحاره لغزة، لكنها أرادت من ورائه أبعد من وصول المساعدات الحالية لغزة، أرادت أن تعود قضية حصار غزة للساحة العالمية من جديد، لأنها وضعت لنفسها هدفا مفاده كسر الحصار عن غزة، وحشد الرأي العام الإعلامي العالميّ بالضغط على الحكومة الإسرائيلية لكسر الحصار، فمن الواضح أنها رتبت كلّ خطواتها، ففور تعرّض الأسطول للاعتداء، عاد الرئيس التركيّ لبلاده قاطعا جولته في أمريكا اللاتينية، وتوجه وزير خارجيتها على جناح السرعة لمجلس الأمن، طالبا اجتماعا عاجلا بخصوص ما حدث، واستطاعت انتزاع "إدانة مخففة"، ونجحت في عقد اجتماع لهيئة حقوق الإنسان، وتعالت الأصوات بوجوب لجنة تحقيق دولية، وقامت بسحب سفيرها لدى إسرائيل، وعاد إلى الأجواء من جديد، المطالبة برفع الحصار، فها نحن نسمع دولا لم نسمعها من قبل، تطالب برفع الحصار ما لم تفعله تلك الدول من قبل، ممّا أحرج الحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي دعا رئيسها بالتفكير الجدّي من خلال حديثه مع مبعوث الرباعية طوني بلير، بتخفيف الحصار عن غزة مقابل قوة مراقبة دولية
فهذه الخطوات، هي ناجحة وايجابية لكنها غير كافية لرفع الحصار، يجب أن تتبعها خطوات شبيهة وسلسلة إجراءات على المستوى الدولي، السياسي والإعلاميّ من أجل رفع الحصار الظالم
وأما نحن هنا، فلسطينيو الداخل، فقد ربحنا تواصل الوفود العالمية العديدة معنا، وإسماع صوتنا عاليا مع كلّ أحرار وشرفاء العالم، فالمشاركة بأسطول الحرية من خلال لجنة المتابعة، عززّ دورها كممثل شرعيّ ووحيد للمواطنين العرب في الداخل الفلسطيني وهذه المشاركة زادت من تأثير فلسطيني الداخل في الحراك الدولي والعالمي لكسر الحصار ناهيك عن انه دل على أنّ قيادة الفلسطينيين في الداخل أصبحت قيادة عابرة للقارات كما حدث مع الشيخ رائد صلاح الذي هبّت من اجله ومن اجل الاسطول الجموع الكثيرة رافعة صوره داعية له، (رغم أن هذا الكلام قد لا يعجب البعض)، ويؤكدّ مصداقية تلك القيادة التي شاركت في الأسطول وتلك التي دعمت المشاركة، بعيدا عن التناحر الحزبيّ والتعصبّ الفئويّ
فهي خطوة ايجابية نحو تعزيز التعاون والتكاتف بين الأطياف السياسية المختلفة في الداخل الفلسطيني في أن نقف صفّا واحدا في قضايا الأرض والمسكن، وقضايا الهوية والانتماء وقضية القدس الشريف والمسجد الاقصى المبارك، فالهموم والمشاكل كثيرة، تحتاج منا لوقفة مسؤولية لنمرّها بسلام