شاءت الصدف أن يكون منزلي مطلا على مدرسة ابتدائية، نظمت حياتي حسب جرس المدرسة، كنت أنظر إلى الساحة محاولا التواجد على نافذتي قبل حضور الطالب الأول إلى المدرسة، وغالبا ما كان نفس الطالب الذي لا يزيد طوله عن سبعة أشبار، يلبس زيه المدرسي بكل أناقة، وعلى ظهره يحمل حقيبة من الكتان المقوى، منتفخة أوداجها من ثقل الكتب والكراسات وكرة يحشرها بصعوبة، شعره اسود قصير يلمع في ضوء شمس نهار جديد، كان أول ما يصل يركن حقيبته على المقعد الحجري بعد أن يطلق سراح كرته لتجري فرحة في الهواء الطلق، يدحرج الكرة، ويدحرج و يدحرج ويرميها في كل اتجاه منتظرا من يأتي لمشاركته سعادته، كنت أرقبه وأتمنى أن أدحرج الكرة معه، الصباح هادئ، الساعة السادسة والنصف، وما هي إلا لحظات حتى يلتئم شمل المدرسة بطلابها، ساحة اسفلتية واسعة، جامدة لا حركة فيها، تخلوا من أية حياة طبيعية، لا أزهار، لا أشجار تبني الطيور عليها أعشاشها، الجدران عارية، لا سلال للمهملات، فالساحة مكب لكل إبداعات الإهمال، بقايا الطعام في كل ركن من أركانها.
الغربان وحدها التي تحافظ على نظافة المكان، فهذا الطائر الذي يتشاءم منه الناس وحده الذي يحافظ على الحد الأدنى من النظافة، أما رجال المستقبل فلا يأبهون لبيئتهم، ومعلمو المدرسة لا يراقبون مثل هذا السلوك!! تماما مثلما لا يهمهم انتظام الطلبة لحظة عزف السلام الوطني وتحية العلم..
قبل الثامنة بعشر دقائق يصطف التلاميذ في صفوف نشاز، متهالكة، تنبعث منها رائحة الملل، لا طعم ولا لون لها، بانتظار اللا شيء، يعلو صوت أستاذ مبحوح يحاول الصراخ متحاملا على نفسه، فلا يجاوز صوته فوهة مكبر الصوت الذي يمسك به بكلتا يديه المرتجفتين.. صاحب الكرة، هو التلميذ الوحيد الذي يقف منتظما في مكانه، يضع يديه جانبا كجندي متمرس على النظام والانضباط، يقف في وسط الصف الطويل...
أحاول أنا جاهدا أن أنام مبكرا علني أسبق صاحب الكرة، هو إلى ساحة المدرسة، وأنا إلى شرفة بيتي.. حاولت الاستعانة بمنبه ساعتي،لكنني كنت أستيقظ على صوت الكرة وهي تتدحرج وعلى صوت أقدام صغيرة تتحرك بنغم يطرب شروق فجر جديد...
ثبتُّ منبه الساعة وتأكدت من التثبيت على الساعة السادسة والربع وكنت عازما التواجد على شرفتي قبل صاحب الكرة، الذي هزمني في الأيام السبعة السابقة... وقبل انطلاق صافرة المنبه المنفرة استطاع شعاع الشمس الذي عبث بعيني ايقاظي، قفزت من فوري إلى النافذة ومن ثم إلى الشرفة، ابتسمت ابتسامة عريضة عندما لم أجد صاحب الكرة قد وصل، ها أنا استطعت أن أهزمه اليوم، اغتبطت على هذا الانتصار، جلست على كرسي بجانب الشرفة أنتظر صاحب الكرة، أحضرت لنفسي فنجانا من القهوة الممزوجة بالهيل، أخذت ارتشف قهوتي وأنا مزهوا بهذا الانتصار، استيقظت زوجتي على رشفات قهوتي، جلست بجانبي ترقب معي وصول صاحب الكرة... وصل أحدهم وصاحب الكرة لم يصل!! انتظرنا وصوله ولكن القلق حلّ مكان الابتسام والغبطة حلّ مكانها الخوف! عُزف السلام بدون انتظام أي من المعلمين أو الطلاب...
زاد قلقي في اليوم التالي عندما لم يحضر صاحب الكرة، انتظرناه في اليوم الثالث والرابع والخامس والعاشر، انتظرنا وانتظرنا و انتظرنا...
صار همي أنا وزوجتي البحث عن خبر يطمئننا عن صاحبنا... أنا لا أعرف له اسما أو وصفا أو نسبا... لا أعرف إلا إنه صاحب كرة الصباح الذي يلتزم الانضباط لحظة عزف السلام الوطني الفلسطيني...
أخيراً، قررت السؤال عنه في المدرسة، وصفته لمدير المدرسة لم يعرفه، وصفته للمعلمين لم يتعرف عليه أحد، وعندما سألت من هم في مثل سنه تعرفوا عليه جميعهم قائلين إنه انتقل إلى مدرسة أخرى... عندها فقط عادت ابتسامتي، فصاحب الكرة قد انتصر عليَّ في كل المرات...