جريس بولس في مقاله:
المشروع الصهيونيّ – الامبرياليّ، الذي استوطن فلسطين، تخطى بأهدافه المباشرة والبعيدة أي احتلال آخر لاي جزء من الوطن العربي
المواطن العربي تلمّس وأحسّ، بعقله وبقلبه، ان فلسطين لم تكن سوى رأس الجسر الذي سينتشر منه السرطان الصهيونيّ الى سائر جسد الامَّة العربية
على الرغم من تعرض اكثر من جزء في الوطن العربيّ للاحتلال وبعضها لا يزال، فانه لم يحدث ان احتل اي منها تلك المكانة التي احتلتها فلسطين في الوجدان والذاكرة والواقع العربي، لا لان فلسطين اغلى من أي جزء آخر في الوطن العربي، وانما لان المشروع الصهيونيّ – الامبرياليّ، الذي استوطن فلسطين، تخطى بأهدافه المباشرة والبعيدة أي احتلال آخر لاي جزء من الوطن العربي. لَقَدْ مثل إحتلال فلسطين التحدِّي الاكثر تاريخية وشمولا. وبكلمات اخرى: إنه التحدِّي الكامل لكرامة العرب وتاريخهم وحضارتهم. يضاف الى هذا ان المواطن العربي تلمّس وأحسّ، بعقله وبقلبه، ان فلسطين لم تكن سوى رأس الجسر الذي سينتشر منه السرطان الصهيونيّ الى سائر جسد الامَّة العربية. ذلك بان المشروع الصهيونيّ والقوى الداعمة له يمثلان، منذ قيام اسرائيل، القوة الاولى المانعة لتقدم الامة ووحدتها ونهوضها. وهذا ما يفسر لنا الإجماع العربيّ الشعبيّ على فلسطين.
لقد تحولت فلسطين الى ما يشبه "التعويذة" التي يتوسلها كل نظام وكل زعيم لتدعيم شرعيته. الفلسطيني ولد بطلاً. منذ اكثر من نصف قرن وهو يناضل ويقاوم ذوداً عن حقوقه الوطنيّة والقوميّة والانسانيّة. كان ولا يزال يواجه الدولة العبرية، التي تمتلك أعتى قوة عسكرية في الشرق الاوسط، تغلبت على الجيوش العربية النظامية مجتمعة ومتفرقة في كل الحروب التي سجلها تاريخ الصراع العربيّ الاسرائيليّ ، ما عدا حرب تموز 2006 في محدودية معينة.
ألفلسطيني البطل
ومن وراء هذه الدولة اعظم قوة في العالم، هي الولايات المتحدة الاميركية، دأبت على دعم الدولة العبرية بلا حدود عسكرياً وسياسياً ودبلوماسياً وماديَّاً وإعلاميَّاً. وقف ألفلسطيني البطل في وجه هذه القوة الغاشمة وقفة عزٍّ، فلم يرفع الراية البيضاء على الرغم من كل ما واجه من عنت وظلم وما تعرَّض له من حملات الإبادة والتشريد والتنكيل فما كان ولن يكون في وارد الاستسلام من قريب أو بعيد.
خطيئة الشعب
هذا البطل يعيش حالة فقر مدقع: قطع عنه راتبه جزاء ما اقترف ابناء قومه إذ تجرأوا على ممارسة حقهم في الاقتراع الحر في عملية إنتخابية شهد العالم اجمع بنزاهتها وسلامتها، فقد كان الرئيس الأميركي السابق كارتر مشرفا عليها. خطيئة هذا الشعب انه صدق شعارات كانت تدعو الى الاخذ بالقيم الحضارية ومنها الحرية والعدالة والديموقراطية وسائر حقوق الانسان. صدق من قال يوماً ان ليس هناك استراتيجيا اميركية في المنطقة وانما استراتيجيا اسرائيلية تنفذها اميركا. البطولة في الصبر على حملة التجويع التي تطوِّق هذا الشعب العظيم بحرمانه لقمة العيش. ان من يمارس العقاب الجماعي بتجويع شعب بأسره أنما يمارس الارهاب بابشع صورة.
رفض ظلم العالم المتحضِّر
البطولة في رفض ظلم العالم "المتحضِّر" الذي يرى ان من حق الدولة العبرية ارتكاب ما يحلو لها من فظاعات من أجل تأمين إطلاق سراح الجندي الاسير، ولا يرى ان من حق الفلسطيني المطالبة بالافراج عن اسرى من بني قومه جاوز عددهم التسعة آلاف. ولقد فجعنا عندما سمعنا بان مندوب قطر الدائم في الامم المتحدة تقدم باسم المجموعة العربية بمشروع قرار امام مجلس الامن يدعو اسرائيل الى وقف اعتداءاتها، فما كان من المندوبين الاميركي والفرنسي إلا ان حالا دون طرح المشروع. هكذا تبنَّت دولة عظمى ودولة كبرى دور الشريك المباشر في الجرائم المنكرة التي ترتكبها الدولة العبرية في حق الانسانية على ارض فلسطين. لا بل هكذا ظهر بجلاء ان العدالة الدولية إنما تكال بمكيالين، وازدواج المعايير هو من صلب القانون الدولي.
الحكام العرب
وفجعنا ايضاً بأن الحكام العرب جبنوا عن متابعة الموقف بالدعوة الى قمة عربية عاجلة من اجل نصرة فلسطين في وجه الظلم الذي تلقاه من جانب أدعياء القيم الانسانية والمبشرين زوراً بالحريَّة والعدالة وسائر حقوق الانسان. إنه الجبن. إنه التقاعُس. إنه التقصير الفادح. كيف يستطيع شعب صغير وضعيف كشعب فلسطين الوقوف هذه الوقفة البطولية في وجه أعتى قوة في العالم، ولا تستطيع امَّة باسرها، امتنا العربية، الوقوف وقفة دعم لهذا الشعب؟ العلة ليست في الامة وانما في حكامها، في من يتحدث أو يسكت بإسمها، في من يتحكم بمسارها ومصيرها. موقف ألفلسطيني البطل فيه درس للحكام العرب. إنهم يعرضون انفسهم لحكم التاريخ وحكم التاريخ لا يرحم.
إنحراف المسألة الفلسطينية
وعودة الى قضية فلسطين، فإن المسألة الفلسطينية تعرضت لانحرافين أساسيين:
الأول: تمثّل في طغيان العالم العربي على الخاص الفلسطيني، الامر الذي ساهم ويساهم في تغييب الهوية الفلسطينية التي كان يجب ابرازها في مواجهة محاولات الطمس التي كانت تقوم بها اسرائيل والحركة الصهيونية لنفي وجود الشعب الفلسطيني.
الثاني، والذي جاء ردة فعل معاكسة للأول لكن خطره لايقل اهمية، تجلى في سيادة روح القطرية الفلسطينية كما عبرت عنها القيادة الفلسطينية المتنفذة بزعامة الرئيس المرحوم عرفات، والتي رفعت شعار "يا وحدنا" الامر الذي قاد في النهاية الى تحرير العرب من فلسطين، وصولاً الى كارثة أوُسلو.
فلسطين قضية العرب
امام هذا الواقع وهذه الدروس يصبح من السهل الوصول الى الرأي السليم، وهو ان فلسطين هي قضية العرب، والحفاظ على خصوصيتها يأتي في اطار مكانها الأصيل كجزء من الأمَّة العربية، وخصوصية الشعب الفلسطيني لا تعني فصله عن صدر امه، وانما هي تأكيد لهويته العربية في مواجهة نقيضه الصهيوني الذي هو نقيض الأمَّة، اما دفع خصوصية الشعب الفلسطيني في اتجاه وضعها في حالة تضاد مع الأمَّة العربية، والاقرار بالشعار الهزيل "يا وحدنا" فهذه قمة المأساة.
ألف تحية لارواح شهداء الأمة
يبقى ان نسجل ان الحرب لم تبدأ امس ولن تنتهي غداً. قد تنتهي الحرب في يوم من الايام بتسويات رخيصة نظراً لفقدان التكافؤ في ميزان القوى إقليمياً ودوليَّاً. والتسويات قد تنهي حال الحرب المسلحة، ولكن الصراع العربي الاسرائيلي، كما كتبت في مقالات سابقة، لن ينتهي برأيي إلا بتحقيق الحلم العربي، إي بقيام فلسطين موحدة، عاصمتها القدس، يتعايش فيها العربي واليهودي جنباً الى جنب ويعود اليها اللاجئون الفلسطينيون كل اللاجئين، الى فلسطين، كل فلسطين.
الفلسطيني في نضاله المشرِّف يصنع أُمَّة والعراقي في اقتتاله الانتحاري يقوِّض أُمَّة.
وأخيراً الف تحية لارواح شهداء الأمَّة في فلسطين وفي لبنان وفي العراق والسّلام.