الشيخ حمّاد أبو دعابس في مقاله:
كان نجم الدين اربكان باراً لدينه وعلمائه، بارّاًً لتركيا ودينها وحضارتها، بارّاً لامته وحضارته الإسلامية
إسرائيل آمنة مطمئنة تضرب غزة وتُنكِّل بالفلسطينيين وتنهب الغاز المصري , وتوفِّر عشرات المليارات كل عام نتيجة إلجامها للمارد المصري العملاق
مبارك وأجهزته الأمينة رأى في القرضاوي والإسلاميين خطراً داهماً , وثقلت قدماه في تأييد مشروعات اربكان الوحدوية , فخرج من الحلبة السياسية عاقراً
تتبوأ كلٌ من مصر وتركيا مكانة إستراتيجية مركزية وهامة جداً، على الساحة الشرق أوسطية، الإسلامية والعالمية. لكل منهما موقعها الاستراتيجي بين قارتين، وتاريخها العريق في خدمة الأمّة الإسلامية لقرون طويلة، ومعالمها الحضارية المميزة وتأثيرها على المنطقة من حولها بالسلب والإيجاب.
ولقد حظينا بشرف المشاركة في مهرجان فتح القسطنطينية، ضمن وفد الحركة الإسلامية بدعوة من السيد نجم الدين اربكان، وذلك بمناسبة مرور خمسمائة عام على فتح المدينة المهمة والإستراتيجية، وأظن ذلك في عام 1992م. في حينها التقينا بالسادة اربكان الذي كان رئيس حزب الفضيلة قبل تولّيه رئاسة الوزراء، واردوغان والذي شغل منصب رئيس بلدية استانبول، وعبد الله غول وقد شغل منصب نائب رئيس الحزب.كما وشارك ضمن ضيوف المهرجان العديد من علماء المسلمين والقيادات الإسلامية في أنحاء العالم وعلى رأسهم الشيخ العلامة د.يوسف القرضاوي، والشيخ قاضي حسين احمد رئيس الجماعة الإسلامية في باكستان.
علاقة البرِّ والأستاذية والوفاء
وفي أسبوع وفاة القائد الملهم والنجم المتألق نجم الدين اربكان،والذي كان بحق الأب الروحي للحركة الإسلامية التركية، وقد نُعي إلى العالم الإسلامي قبل أيام. يطيب لنا الحديث عن علاقة البّر والوفاء بين القادة والعلماء. بين من يعرفون لأهل الفضل فضلهم، ولا تنسيهم الأضواء السّاطعة، والمناصب الرفيعة والشهرة السامقة برّهم ووفائهم وتقديرهم لمن أخذوا بأيديهم في بداياتهم، حتى صنعوا لهم بين العالمين مجداً. فاربكان الذي كان يُلقَّب بالأستاذ دكتور بروفيسور نجم الدين اربكان، والذي نبغ في العلوم المدنيّة، وتخصّص في الصناعات العسكرية وله براعات اختراع على مستوى التصنيع العسكري في ألمانيا وتركيا، لم يتكبَّر يوماً من الأيام على علماء الشّريعة وأهل الدين. فقد جمعته بهم ميادين البر والتكريم، اخذ عنهم، وامتلأت روحه بفكرهم، وجمع بين العلم والإيمان، بين القيادة الفذّة والطموح الكبير،والرؤية الشمولية الواسعة لحاضر العالم الإسلامي ومستقبله، لعزّته وكرامته، لمجده وازدهاره.إنها سلسلة برّ ووفاء للمنهج والفكر وان اختلفت الأدوار وتعدّدت الأدوات. استأذنا وشيخنا القرضاوي أمدَّ الله في عمره – ظلَّ باراً لمنهج الإمام ألبنَّا، وان بعدت المسافات بين الشيخ الجليل ومسقط رأسه. ذلك المنهج الداعي إلى بناء الفرد المسلم ثم البيت المسلم ثم المجتمع المسلم ثم الدولة الإسلامية ثم أستاذية العالم. جاء نجم الدين اربكان بمشروع بناء المجتمع المسلم والتدرج نحو بناء الدولة الإسلامية، وبدأ محاولة في إنشاء مؤسسات إسلامية دوليّة ذات بعدٍ وحدوي. فاقترح وتحرك فعلياً نحو إنشاء سوق إسلامية مشتركة، واتحاد الثماني دول الإسلامية الكبار، واقترح أن يشمل كلاً من تركيا، إيران، مصر،باكستان، بنغلاديش، اندونيسيا، ماليزيا ونيجريا. وهي ثماني دول يقطنها أكثر من نصف المسلمين في العالم. هذا إضافة إلى البنك الإسلامي الدولي، ومنظمة حقوق الإنسان الإسلامية الدولية وغيرها.
كان نجم الدين اربكان باراً لدينه وعلمائه، بارّاًً لتركيا ودينها وحضارتها، بارّاً لامته وحضارته الإسلامية. فاستحقَّ أبناء بَرره يكملون مشواره ولو بعد حين وتحت مسمّيات مختلفة، فحظيت تركيا بعده بالطيب اردوغان وبعبد الله غول. فالذي يجمع بين القرضاوي، اربكان واردوغان هو برّ للمنهج، إبداع في الأدوات تقاسم وتكامل في الأدوار، نتج عن كل ذلك مشروع تركي إسلامي معاصر، أصبح أملاً وقدوةً للأمَّة.
وأين دور مبارك بين هؤلاء الكبار؟
الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك يجمعه بالشيخ القرضاوي والبروفيسور اربكان إنهم أبناء جيل واحد تقريباً، وينتمون الى دين واحد وأمةٍ واحدةٍ. وكل منهم أوتي فرصته ليعرض ما عنده ويظهر حقيقة معدنه. ويجتمع مبارك والقرضاوي في كونهما مصريان يتقاسمان التاريخ والحضارة والواقع الواحد. ولكن شتّان بين من رأى النور فاتبعه بل أسهم في بثِّه ونشره وبين من عمى عنه أو حاربه وتجاهله، فعاش في الظلمات ليس بخارجٍ منها. بعكس اربكان واردوغان الذَين بروا بدينهم وأمتهم وعلمائهم وحضارتهم، فإن النظام المصري المنتهي قد حارب العلماء العاملين، فلم تسعهم ارض مصر الواسعة، عاشوا في المنافي، وحُرِم من بركاتهم خلق كثير بسبب مواقف مبارك وزمرته ، وفي حين قدّم اربكان ومن بعده اردوغان تركيا إلى أستاذية العالم الإسلامي، فقد أخّر مبارك مصر إلى دركٍ سحيق. فصنع منها دمية يتلاعب بها الغرب وإسرائيل . وفقدت مصر في عهد مبارك مكانتها الهامّة في التأثير على مجريات الأحداث , فلم يعد احدٌ يأبه لموقفها ودورها . تبدّدت ثرواتها لتذهب لأيدي الطغمة الحاكمة. وعمَّ فيها الفساد والمحسوبية , وورث عامَّة الشعب المصري ذُلاً وهواناً تمثَّل في التسوّل وطلب الرشاوى والإكراميات ولو بالملاليم . والجندي المصري على الحدود يثير الشفقة والمسكنة. وإسرائيل آمنة مطمئنة تضرب غزة وتُنكِّل بالفلسطينيين وتنهب الغاز المصري , وتوفِّر عشرات المليارات كل عام نتيجة إلجامها للمارد المصري العملاق .
مبارك وأجهزته الأمينة رأى في القرضاوي والإسلاميين خطراً داهماً , وثقلت قدماه في تأييد مشروعات اربكان الوحدوية , فخرج من الحلبة السياسية عاقراً . " كمثل الحمار يحمل أسفاراً , بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله , والله لا يهدي القوم الظالمين ". بين يديه المنهج القويم فرآه خطراً, ويملك كل مقوّمات القوة وصناعة التاريخ والمجد والحضارة , ولكنه ظل عاجزاً عن استغلالها واستثمارها :
كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول .
خاتمة .....وخاتمة
في الثمانينات من عمره يُنحّى مبارك غير مأسوف عليه, ليعيش ما بقي من عمره ملموماً مخذولاً . يطارده شبح الاتهام بسرقة أموال الشّعب المصري وإذلاله وتأخير صحوته. وفي نفس الجيل تقريباً , يدخل الشيخ العلامة صاحب الفضيلة د.يوسف القرضاوي مصر من أوسع أبوابها ليخطب الجمعة في ميدان التحرير أمام أكثر من مليوني مصري, في جمعة النصر. وفي نفس الجيل ينتقل اربكان إلى جوار ربه مُعَّززاً محبوباً محاطاً بملايين المشيّعين الذين يذكرونه بالخير، ويحفظون له الودّ والعهد . فشتّان شتان بين خاتمة البرّ وخاتمة العقوق . إنها لفتة لكل من اؤتمن على مصالح الناس, وتحمَّل المسئولية تجاههم أن أخلص في حمل الأمانة وأدَّها على حقِّها , وإلا فان مصيرك نقمة أهل الأرض في الدنيا ونقمة رب السماوات والأرض في الدنيا والآخرة .
وما يزال الأمل معقوداً
رحل اربكان من الدنيا محفوفاً بالمحبة والوفاء, وما يزال منهجه وثمرات تجربته وعطائه مستمراً. وأبناؤه وتلاميذه من قادة تركيا وعلى رأسهم الطيب اوردغان يسطِّرون صفحات المجد ويصنعون للأمة الإسلامية عِزّة ومجداً . وبالمقابل دخل الشيخ القرضاوي مصر منتصراً معزَّزاً مكرَّماً, وما يزال الطموح اكبر من مجرد رحيل النظام المصري. إنَّ أملنا أن تزول بسرعة وعلى التوالي جميع أنظمة القهر والاستبداد في عالمنا العربي والإسلامي وعسى أن يمدّ الله في عمر شيخنا القرضاوي حتى يرى العالم الإسلامي كلَّه حرَّاً عزيزاً, مجتمع الكلمة موحّد الصف مُهاب الجانب ليعيد للعالم بأسره رونقه الجميل وكرامته الإسلامية وصورته الوضيئة البهيَّة .
وما ذلك على الله بعزيز
والله غالب على أمره