انطلقت المظاهرة الى الشوارعِ تقصد قصر الملك المبجل، ذلك القصر المرصع بالياقوت وحوله اشجارُ الصنوبرِ العتيقة وفي جوفه يقفُ التمثالُ الذي يعبرُ عن السؤدد والسيادة والعزة والتملك...!
كان الجو ساعتها حاراً جداً والعرق يتصبب من على جباه رجال الشرطة وصوتُ دوي الرصاص وقرع المعادن خيمَ على المكان وفي وسط الباحة الأمامية وقفت لها فتاةُ جميلة الملامح، رقيقةُ المبسم، بريئة الطلة.. قد حملت بيدها وردة حمراء تلون عرقها الاخضر بالدم الذي سالَ من اصبعها ريثما حملت الوردة ووخزتها الشياكُ التي كانت في العرق.
نظرت بلطفٍ عليهم وقد كانوا مثل الكتلِ الدائرية يلتفون ويدورون، ويصرخون هاتفين : " تغير، تغير، قد حان التغير" واعتلت الاصوات: " نريد الحق في الماء، نريد الحق في الهواء، نريد الارض فراشاً للعيش... فليحيا الخبز... فليحيا الخبز".
هكذا تماماً ردد التائهين وسط الباحة التي انطرحت ارضاً على شكل رمالٍ مدرجة ومنبسطة تتطاير بها الأوراق عالياً بشكل ٍ افقي ثم تنزل بهدوء لتعود على دورها مرة ومرة، فتشكلُ في حركتها اسماً غريبا استهجنته الفتاة التي وقفت هناك شاخصةً في ما يدورُ من حولها والتي كان اسمها " ثورة"...!
على حين غفلةٍ وبعد استراحة قصيرة اخذتها جماعة الشراذم، صرخ فجاءةً أحدُ الأشخاص الذي توارى بقطعٍ بالية من القماش حيث كان قميصه ملطخاً بالغبار وهناك اثر في وجهه لشقوةِ الحياة وعنائها وقد راحت في خطوط جلده كتل الهموم تتبخرُ مثل بخار النار الضارية.. صاح مندداً :
" نريد خبزاً أو شعير،
نريدُ لقمةً ولا كثير |
نريدُ عيشاً
كفى، كفى
كفانا أن نكونَ حميرْ
نجلدُ بالسياط
وندقُ بالمسامير
كفى ، كفى ...!
هزت هذه الاراجيز بدن اللآذن الذي وقف مثل صنمِ بوذا أمام الباب الضخم الذي وصدَ به جدارُ القصر المنيع فقال الآذن باستهجان: "
صه ايها الحقير،
صه!
فأنتَ شرذمةٌ فقير
لا تزعجنَّ الامام
والأمير|
فهو في ساعةِ ما قبل الظهير
مستلقٍ على ظهره
يبحث في أمر خطير،
فقضايا الرقص عالقة
وهموم الغناء تثير|
تثير الجدل في
أوساط الجماهير
صه، ايها الحقيرْ "
عادت الفتاة في نظرتها الى ذلك الآذن الذي كان ذا شارباً ملتو يقف عليه النسر الشامخ بعد نيله من الطريدة الرعناء التي حصل َ عليها كوجبة خفيفة للغداء تسد رمق جوعه وفرقعة بطنه العفن الذي امتلء بجيفٍ كثيرة قام باصطيادها والنيل منها.
ثم بعد ثوانٍ عدة، عاد أحدُ الفلاحين من بين الصفوف وفي يديه قصعةٌ من الخبزِ وقضمة من البصل الأخضر وقال بصوتٍ مرتفع:"
تباً لكل ِ جبار،
أكل كل الخيار
وزاد في غلاء الخضار|
سحقاً لكلِ أمّار
حبسَ الماء والأنهار،
ومنع العيش عن الاستقرار "
أثناء هذه الهتافات واعتلاء الصوت وارتفاع الطرق والتخبط في كل الأرجاء صرخت ثورة، نادت ثورة، جاشت ثورة، وقالت بكل ما أتيت من قوة:
" حانَ يوم الخبز والزيتون وشرب الماء بالليمون
حان العيش دون ظنون ونوم الطفل كالمجنون
حانَ زمن الغضب حون وبزغ فجرُ المليون "
حال انتهاء ثورة من أخر كلمة ترددت من فاهها صعدت الذبذبات الى الأعلى واسقطت الاشارات الصوتية جميع الأوراق التي تطايرت في الهواء وعم الصمتُ في الارجاء وظل الكل يترقبُ اللحظة الاخيرة...!
فعاد صدى الصوت يترنمُ ويترنحُ عبر تناغمٍ عجيب الى آذان الملك فاهتز بدنه التخين وانزعجَ لحظة النوم والاسترخاء في حالة الانبطاحِ والاستلقاء، فردد قائلاً :
" أيها الخدم،
أيها الحشمْ،
أعدموا كل فقير|
أعدموا كل أجيرْ
وأسحقوا الشراذم من أمامي،
فأنا أفكرُ بشعبي،
والناسُ لا تتركني أدير
الأمة في يومها الخطير..."
ثمّ قامَ برمي خمسةَ قروشٍ من أعالي السرايا والتي تطايرت أمام أعين الجماهير وسقطت من خلف الحصن المنيع في ساحة التظاهر وطنت مثل طنين اعلان الحربِ والطوارئ.
فتهافت الحضورُ عليها متشاجرين فيما بينهم من الذي ينالها لنفسه فهذا يوم السعد، ويوم الحظ الوفير، فان فيها من روح الملك الكبير ما تجعل من أحقر الحقير الى أنبلِ سيدٍ وأمير...
فلما رأت ثورة ما دار هناك وكيف انهال المتظاهرون على خمسة قروشٍ كادوا يمزقوا بعضهم البعض من أجل الحصول عليها فقالت وهي تبكي الدمع الغرير : " كبلوني ، واعدموا فتوتي، وانحروني فدمي لم يعد يحتمل وعقلي لم يعد يتسع ولم يعد في العالم من يسمع... لم يعد من يسمع ؟ " .
فهل تسمع؟
وهل تسمعين؟