محمود عودة في مقاله:
معظم الأقوال والادّعاءات التي صدرت لا تحتاج إلى دراسة معمّقة لكشف حقيقتها، إلاّ أنه من الواجب الوقوف عند بعضها والرد عليها
كثيرًا من الناس تقبّلوا رواية الحكومة الرسمية وغابت عن أذهانهم مشاهد الثورات الأخرى، حين دسّت الأنظمة الفاسدة "البلطجية" والمرتزقة بين المتظاهرين
مجرّد اقتراب الثورة من المملكة العربية السعودية، بل بداية انتشارها فيها، يزيد من توظيف شعار "حماية السنّة" ويُكثر من الادّعاءات المؤجّجة للطائفية، ويزيد من التعتيم والتضليل الإعلامي والنخبوي،
بعد وقوف معظمهم إلى جانب الثورات العربية ودعمهم لها، كانت تعليقات بعض الشخصيات المهمّة في العالم الإسلامي على ثورة البحرين مؤسفة وبعيدة عن الواقع. ذلك بأنه اعتبر بعض كبار علماء المسلمين، وعلى رأسهم الشيخ العلاّمة يوسف القرضاوي - الذي نقدّره ونحترمه - ثورة البحرين ثورة طائفية ليست كباقي ثورات العالم العربي والإسلامي، وأنها ثورة شيعيّة ضد السنّة، ليس وراءها مطالب تتعلق بحقوق المواطنين وحريّتهم ووضعهم المعيشي، وأنّها ثورة ذات لون واحد، لا تعدّدية فيها. بل راح البعض يتحدّث عن "قرامطة جدد" في البحرين، يستحلّون دماء المسلمين ويغيرون على نسائهم ويعتدون على ممتلكاتهم، وجعلوا التصدّي لهم من "أعظم الجهاد"!
ثورة البحرين ثورة طائفية!
بما أنّ معظم الأقوال والادّعاءات التي صدرت لا تحتاج إلى دراسة معمّقة لكشف حقيقتها، إلاّ أنه من الواجب الوقوف عند بعضها والرد عليها، نظرًا لأهمية قائليها وللأخطار التي قد تنتج عنها؛ بالنسبة لخطاب الشيخ يوسف القرضاوي، فإنه للأسف ناقض نفسه في كلمته عن ثورة البحرين - وجلّ من لا يخطئ - باعترافه أنه لم يكن يملك معلومات كافية عمّا يحدث هناك، وبالرغم من ذلك تحدّث وحكم عليها أنها طائفية.
إنعدام الحريّة
الشواهد على أرض الواقع تشير إلى عكس ما ادّعاه القرضاوي وغيره؛ إذ تشارك في الثورة حركات وجمعيات وجهات ذات توجهات وأيديولوجيات متنوّعة ومختلفة تضمّ السنّة والشيعة، إلى جانب المواطنين العاديين الذين خرجوا إلى الشوارع ليشمّوا رائحة الحريّة. وقد أثارت اتهامات البعض للثورة بأنها طائفية استغراب المتظاهرين، إذ يأتي بعضهم من عائلات مختلطة، يتزوّج السنيّ فيها الشيعيّة، والشيعيّ السنيّة، ولم يتربّوا على هذه التصنيفات الطائفية، ويعاني جميعهم من نفس المشاكل على كافة الأصعدة؛ من الفقر والبطالة وانعدام الحريّة والعدالة الاجتماعية، وقد وصل صدى صوتهم السماء وهم يردّدون "إخوان سنّة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعَه!" وغيرها من الشعارات الرافضة للطائفية، وزيّنوا ثورتهم بالورود التي أعطوها لرجال الأمن تعبيرًا عن سلميّة احتجاجاتهم.
الاتهامات الباطلة
إضافة إلى الاتهامات الباطلة، كان تقصير وسائل الإعلام بحقّ البحرينيين وثورتهم واضحًا، إذ تمّ - على سبيل المثال لا الحصر - نشر العديد من التقارير المزوّرة على شاشة التلفزيون البحريني وعلى الإنترنت، تتّهم المتظاهرين بحمل السلاح، وأعلام "حزب الله"، وأنهم يعتدون على سيارات الإسعاف ورجال الأمن.
والغريب أنّ كثيرًا من الناس تقبّلوا رواية الحكومة الرسمية وغابت عن أذهانهم مشاهد الثورات الأخرى، حين دسّت الأنظمة الفاسدة "البلطجية" والمرتزقة بين المتظاهرين، الذين اعتدوا على المواطنين وخرّبوا الممتلكات العامّة، ليشوّهوا صورة الثورات ويضلّوا الناس عن حقيقتها. فقد كذّبوا أبواق الحكومة خلال تلك الثورات، وصدّقوها في ثورة البحرين. ولم يظهر أي علم لحزب الله ولا أي صورة لخامنئي خلال الثورة كما قيل، وإن رفع البعض تلك الأعلام والصور في مناسبات أخرى فهل ذلك ينقص من وطنيتهم وعروبتهم؟
الثورة البحرينية
ثم هل غاب عن أذهان أولئك الذين يتّهمون الثورة البحرينية بالطائفية، أنّ هناك شيعة يؤيّدون العائلة المالكة والنظام؟ وهل نسي أولئك أنّ في البحرين تستقرّ أكبر شركات الاستثمار العالمية، في الوقت الذي يعيش فيه 12% من شعبها تحت خط الفقر المدقع ويتم جلب العمّال الأجانب؟ وهل نسي أولئك الاعتقالات السياسية في البحرين والفساد المستشري وتجارة الرقيق؟ ولمَ تجاهلوا زيارة وزير خارجية البحرين لجمعيات اللوبي الصهيوني في أمريكا وزعمه بأن إسرائيل ستبقى في المنطقة "إلى الأبد"؟ ثمّ ألا ترمز تلك الزيارات - في ظلّ الاعتداءات الصهيونية - إلى ولاء حكّام البحرين لجهات معادية للعروبة والإسلام؟
إنّ غالبية البحرينيين الشيعة صوّتوا لصالح استقلال بلادهم وعدم انضمامها لإيران في استفتاء جرى عام 1970، إذ كانت نسبتهم عندئذ 80% - ثم انخفضت بعد سياسة تجنيس الأجانب لتصل إلى 66% - وقبلوا بحكم آل خليفة. وإنّ من حق البحرينيين اليوم - سنّة وشيعة وغيرهم - أن يطالبوا بحقوقهم المسلوبة وبإسقاط النظام، بعد أن أثبت آل خليفة فشلهم في حكم البلاد، وبعد تعامل النظام المخزي مع المتظاهرين وتخوينهم وقتلهم، والاستقواء عليهم بـ"درع الجزيرة"؛ الذي نسي أنّ المسجد الحرام يحتلّه آل سعود كما يحتلّ المسجد الأقصى الصهاينة وغلاة اليهود.
"حماية السنة"
لكنّ الظاهر أنّ مجرّد اقتراب الثورة من المملكة العربية السعودية، بل بداية انتشارها فيها، يزيد من توظيف شعار "حماية السنّة" ويُكثر من الادّعاءات المؤجّجة للطائفية، ويزيد من التعتيم والتضليل الإعلامي والنخبوي، ثم تُمسي الثورة على الظلم في جزيرة العرب "محرّمة شرعًا". ممّا يتطلّب منا بالتالي قراءة الأحداث بدقّة وتدبّر، وألاّ نجعل ثقتنا في بعض النخب ووسائل الإعلام تحجب عنّا حقيقة ما يجري، فالحقّ لن يتمثّل كلّه في شخص واحد أو جهة واحدة.
وحتى يهدينا الله إلى يوم نتخلّى فيه عن المذهبية المبتدَعة، ونتبع فيه قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (فصلت: 33)، وقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران: 103)، سنظلّ نردّد مع إخواننا في البحرين وفي كل أرجاء الوطن العربي والإسلامي: إخوان سنّة وشيعة، هذا الوطن ما نبيعَه!.