قناة الجزيرة بثت فيلماً وثائقياً حول البروفسور نورمان فينكلستاين تحت عنوان "يهودي ضد التيار"
الدكتور نورمان فينكلستاين.. مؤلف وعالم سياسي أمريكي محترم.. دُعِي لإعطاء محاضرة في جامعة واترلو الكندية.. فأثارت بنت يهودية المحرقة اليهودية لإستعطاف الحاضرين ولإنتقاده نتيجة لمعاداته المستمرة لكل ما يفعله الصهاينة.
تقدمت فتاة أميركية يهودية نحو هذا اليهودي «الأعجوبة»، فذرفت دموعها أمام الحشود التي شهدت محاضرته المثيرة، ثم خنقتها عبرة تركت في القاعة صمتا كصمت القبور، قالت له بصوت متهدج: «ويحك!! كيف تجرؤ وأنت اليهودي أن تلقي تهمك جزافا على جمع كبير من اليهود بمن فيهم حضور هذه القاعة وتصفهم بالنازيين؟ كيف لك أن تتهم ضحايا النازية بالنازيين؟».
المشتكية المحتجة الباكية فتاة يهودية، والمحتج عليه المشتكى منه مفكر وأكاديمي أميركي يهودي، قتل والده في معسكر أوشفتين النازي Auschwitz-Birkenau، وقتلت أمه في معسكر ماجدونيفيك Majdanek، وأعدم النازيون معظم أفراد عائلته، هو البروفسور والكاتب الشجاع نورمان فنكلستين، أحد خصوم الإسرائيليين لدرجة العداوة الفاضحة لممارساتهم الإجرامية، والكاشف لمخططاتهم العنصرية ضد الفلسطينيين. لم تحرك دموع الفتاة اليهودية في هذا اليهودي «الفلتة» ساكنا، بل هجم عليها وعلى دموعها وعبراتها بضراوة، وكأنه فلسطيني مكلوم، دمرت المجنزرات الصهيونية للتو بيت زوجته وأطفاله، فلم ينج منهم أحد. قال لها بوجه عابس غاضب، يكاد يتميز من الغيظ: «أنا لا أحترم ولا أقدر ولا أتعاطف مع دموعك، إنها دموع تماسيح. أنا أحد ضحايا الهولوكوست، فقد ذبح النازيون أمي، وقتلوا أبي وأعدموا معظم أفراد أسرتي، لكني أمقت أن تستغل المحرقة النازية، وهي بلا ريب ظلم وجريمة، لتبرير الممارسات الإسرائيلية من تعذيب ووحشية وهدم للبيوت، والتي ترتكبها إسرائيل يوميا ضد الفلسطينيين، ولهذا أنا أرفض أي محاولة للتأثير عليّ بدموع تماسيح».
نزلت تعليقات هذا اليهودي الشجاع على هذه اليهودية، وعلى الحضور، نزول زخات المطر على كومة من الجمر الملتهب، إذ إنه من السهل لو قالها غيره أن يتهم بمعاداة السامية والتعاطف مع النازيين، ودعم «الإرهابيين» الفلسطينيين، وبقية السيمفونية الصهيونية. لكن، لا يمكن أن يشكك أحد في بروفسور يهودي، ومفكر هو أصلا أحد ضحايا المحرقة النازية الألمانية، ولهذا راجت مواقف البروفسور نورمان فنكلستين الشجاعة في فضح الآلة الإعلامية الصهيونية، ومن تعاطف معها، وأعطى نموذجا صادقا للإنسان الذي يستفيد من معاناته، والظلم الذي وقع عليه وعلى أمته وأتباع ملته من أن يقع على ضعفاء آخرين، كما تفعل إسرائيل مع الفلسطينيين.
هذه هي النظرة الإيجابية العاقلة الحيادية تجاه المحرقة النازية، التي يجب على عقلاء اليهود والغرب نشرها وترويجها والتسويق لها، بل يجب تعميمها تجاه أي ظلم يمارسه البشر ضد البشر. وهذه النظرة في تقديري أبلغ من إنكار المحرقة النازية ضد اليهود، أو الدخول في جدل عقيم حول التشكيك فيها وفي فصولها. ولو عقدنا مقارنة بين تشكيك المفكر الفرنسي المسلم روجيه غارودي في المحرقة اليهودية، وجدلية نورمان فنكلستين التي تقوم على التنديد بالهولوكوست النازي ضد اليهود، والهولوكوست اليهودي ضد الفلسطينيين، وعدم استغلال الأول لتبرير الثاني، لوجدنا جدلية فنكلستين أكثر تأثيرا في العالم الغربي. ولهذا حظي الأخير بثناء عدد من المؤرخين البارزين، مثل راؤول هيلبرغ، وكذلك آفي شليم، أهم المختصين في أحداث المحرقة النازية ضد اليهود. كما تحالف معه عدد من الطلبة الأميركيين من خلال الإضراب عن الطعام، وتعاطفت معه «الرابطة الأميركية لدكاترة الجامعات».
المؤسف في هذا الشأن أن الدور العربي هزيل في التواصل مع مثل هؤلاء المفكرين الشجعان، واستغلال أصواتهم ودعمهم ماديا ومعنويا، فالبروفسور فنكلستين خاض معارك شرسة مع اللوبي اليهودي في أميركا والمتعاطفين معه من الأميركيين، وتعرض لضغوط شديدة، استقال على أثرها من عمله كأستاذ في جامعة دوبول، في شيكاغو عام 2007. والمؤسف المحزن في هذا الشأن أن بعض الأكاديميين والمفكرين والكتاب العرب لا يصلون إلى ما وصل إليه هذا اليهودي، ضحية المحرقة النازية، في الدفاع المستميت عن القضية الفلسطينية.