إبراهيم صرصور:
ما زلنا بعد مرور ثلاثة وستين عاما على قيام الدولة ، نتحدث عن النقص الخطير في غرف التدريس وفي الخدمات
لم يعد دور المدرسة حسب الاتجاهات الحديثة في الإدارة مجرد تسيير شؤون المدرسة سيرا روتينيا يتحدد في المحافظة على النظام
أين الأب والأم الذين وضعوا ثقتهم بصدق في المعلم لإيمانهم بأهمية دوره وخطورة مهمته ، وأين المجتمع الحاضن للمعلم والمقدس لوظيفته ؟؟
منذ المحاولات الأولى لصياغة ملامح الشخصية العربية من خلال منهاج تعليمي يعكس الحاجة إلى التميز بناء على الموروث الثقافي والحضاري للأقلية العربية في إسرائيل ، ومع كل مؤتمر يعقد لتناول هذا الملف الهام والخطير ، ومع كل دراسة أو مقالة تصدر مع بداية كل عام دراسي جديد ، نسمع بأن التعليم العربي يقف على مفترق طريق تتنازعه رغبتان جامحتان ، الأولى هي السعي الحثيث للوصول إلى تحقيق المطالب ذات العلاقة بالمباني والخدمات على أنواعها ، والثانية هي الوصول في النهاية ولو بالتدريج إلى نوع من الحكم الذاتي الثقافي الذي يمنح المجتمع العربي الحق في بناء مناهجه المرتكزة إلى ثوابته الدينية والقومية والوطنية ، بهدف بلورة كيان طلابي ( فردي وجماعي ) يبني ذاته في إطار قواعد لعبة تأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات المحيطة من غير إفراط ولا تفريط ، ومن غير تهويل ولا تهوين ...
التوقف عند نقطة زمنية معينة
مع بداية هذا العام الدراسي الجديد ، نعود لنقف أمام نفس المعادلة ، وكأن الزمن بالنسبة لنا كمجتمع عربي قد توقف عند نقطة زمنية معينة لا يبرحها أبدا مهما تقدم العالم من حولنا وتطور وتغير ... فما زلنا بعد مرور ثلاثة وستين عاما على قيام الدولة ، نتحدث عن النقص الخطير في غرف التدريس وفي الخدمات ، وعن مستوى التحصيل المتدني بالمقارنة مع الوسط اليهودي ، والذي يتجلى في النهاية بنتائج البجروت ... إلا أن الأخطر من ذلك كله هو الفشل – ونحن هنا لا نعمم – في إنتاج البيئة التربوية والتعليمية الصحية ، القادرة على تفريخ ليس فقط الطالب المتعلم ، ولكن الإنسان المثقف والمبدع الذي يجمع إلى العلم النافع قوة الالتزام بثوابته العقائدية والقومية والوطنية ، وصدق الانتماء إلى بلده ووطنه وجماهيره ، وعمق وعيه بالمشهد السياسي العام ، وصراع الحضارات الذي يحاول البعض أن يفرضه ولو بشكل قسري ، إضافة إلى شدة انحيازه إلى قضايا شعبه وأمته ...
عوائق أساسية
مع كل التحسن المحدود الذي طرأ على التعليم العربي والذي لا يمكن أن ننكره ، إلا أن عوائق أساسية ما زالت تعرقل النقلة النوعية العميقة التي يحتاجها جهاز التعليم العربي . هذه العوائق هي في الأساس نتاج لعقلية سلطوية ما تزال ترى في المجتمع العربي تهديدا ، وعليه فهي تعمل بوعي كامل لتحقيق ما يمليه عليها العقل الواعي واللاواعي من سياسات تغذيها وتسندها حقائق من أهمها : أولا نقطة الانطلاق لجهاز التعليم العربي والذي بدا من الصفر مقارنة مع جهاز التعليم اليهودي الذي حظي بالرعاية والتنظيم منذ عهد الانتداب ، وثانيا عدم تنفيذ سياسة تفضيلية عميقة تؤدي وبشكل استراتيجي لجسر الهوة بين الوسطين في مدة زمنية محدودة ، الأمر الذي يمنع جهاز التعليم العربي من الانطلاق بقوة نحو المستقبل ، ويفرض عليه حركة بطيئة جدا لا يمكن أن تحدث القفزة المطلوبة ، وثالثا لائحة أولويات إسرائيلية تضع عملية إصلاح جهاز التعليم اليهودي ، وإزالة الفوارق بين فئات الشعب اليهودي نفسه على رأس أولوياتها ، ومن هنا لا يبقى للتعليم العربي فرصة للمنافسة على استدرار عطف أجهزة الدولة المختلفة ... لا بد من تغيير جذري في هذه الرؤى يضع التعليم العربي في قلب الاهتمام الرسمي والشعبي ، والذي يعني قلب الأولويات رأسا على عقب ، إذا ما أردنا فعلا أن نرى تعليما عربيا حقيقا ...
الإمكانات المحدودة والفرص المتاحة
بما أننا لا نتوقع أن يحدث هذا التغيير شبه المستحيل في السياسة الإسرائيلية تجاه التعليم العربي ، مما سيبقينا ( نلهث ) وراء التحسينات التجميلية حتى تنقطع أنفاسنا ، لا بد من إلقاء نظرة نحو الذات لنرى إن كان هنالك ما يمكن أن نفعله لخدمة جهازنا في إطار الإمكانات المحدودة والفرص المتاحة ... عندما يجلس عامة الناس وخاصتهم ممن عاصروا التعليم في ( روحه ) التي كانت سائدة في الخمسينات والستينات والسبعينات وحتى الثمانينات ، يجمع الحاضرون على أنه ورغم الفارق الكبير بين أوضاع المدارس ( كَمّاً ونوعا ) في تلك الحقب من الزمان وبين أوضاعها اليوم ، فإن غياب ( روح ) تلك المرحلة والذي حولت مدارسنا بالأمس على تواضعها إلى قلاع علم ومراكز إشعاع حقيقية وقواعد إصلاح ، يكاد يجعل من مدارسنا اليوم رغم بنيانها الشامخ والجميل ، أكواخا خاوية على عروشها لا نكاد نحس فيها من احد أو نسمع لهم رِكْزا ( الصوت الخفي ) ، ونحن هنا أيضا لا نعمم ... أين المعلم حامل الرسالة ، وأين الطالب صاحب الهمة ؟؟!!.. أين الأب والأم الذين وضعوا ثقتهم بصدق في المعلم لإيمانهم بأهمية دوره وخطورة مهمته ، وأين المجتمع الحاضن للمعلم والمقدس لوظيفته ؟؟!!... الحنين إلى أيام كان الطالب فيها إذا رأى معلمه في الشارع ، يتمنى لو أنه كان نسيا منسيا ، وإلى أيام كان المعلم فيها واعيا تمام الوعي إلى قدسية وظيفته فيحرص على الحفاظ عليها وعدم تعريضها إلى ما يخدش صفاءها ، وإلى أيام كانت ثقة المجتمع والقيادة المحلية في المدرس بلا حدود ، فهي التي تحميه وتعطيه السند مهما اختار من أساليب التربية في سبيل إصلاح أبنائهم وبناتهم ... وإلى أيام ... وإلى أيام ...
الخلل في مستويات التعليم
الحنين إلى تلك ( الروح ) الوثابة والملتزمة ، هو ما ينقصنا في هذه الأيام ... وهذا هو مطلب الساعة الملح ... بهذه ( الروح ) نتجاوز الخلل في مستويات التعليم العربي مقارنة باليهودي ، فنحقق بذلك الهدفين معا ، التعليم النوعي والكمي ، تماما كما حقق أسلافنا التفوق الاستراتيجي رغم الخلل الكمي بينهم وبين أعدائهم في الماضي ، ولم يكونوا يستطيعون تحقيق ذلك بدون ( إيمانهم ) برسالتهم ، وثقتهم بقدرتهم ، واعتزازهم برسالتهم الإصلاحية الربانية ، وإيثارهم للصالح العام على مصالحهم الشخصية ، واستعدادهم للتضحية في سبيل رسالتهم بالغالي والرخيص ، وهي الشروط المطلوبة لنجاح أية عملية إصلاح ... من هنا يجب أن نبدأ عملية إصلاح جهاز التعليم العربي .. قد يسميه البعض ( أهداف ) التعليم ... لا تهمني المصطلحات ، المهم أن نعي الأولويات ، فنحشد من اجل بلوغها كل الطاقات ... عندها وعندها فقط ، نستطيع أن نقول أننا وضعنا أقدامنا على بداية طريق الإصلاح الحقيقي والجاد لجهازنا التعليمي والتربوي ...
عملية إصلاح
هنا لنا أن نسأل سؤال الترليون دولار وليس المليون ، من الذي يستطيع أن يبدأ بالخطوة الأولى في سبيل استرجاع تلك ( الروح )، وتطويرها بما يتناسب مع أوضاع مجتمعاتنا ؟؟ لا شك أن أسرة المدرسة ابتداء من الإدارة ، مرورا بالهيئة التدريسية وطاقم المدرسة من المستشارين وغيرهم ، وانتهاء بأولياء أمور الطلاب ، هم من يجب أن ينهضوا بمشروع الإصلاح الطموح هذا ، مدعومين طبعا بباقي المكونات المجتمعية من سلطات محلية ومنظمات مجتمع أهلي ومساجد ومؤسسات وغيرها ... بما أنه لا بد لكل عملية إصلاح من قيادة مبادرة ومتابعة ومثابرة ، فلا أرى قياد ة أصلح لهذه المهمة من إدارات المدارس والهيئات التدريسية فيها ...
محور العملية الإدارية
لم يعد دور المدرسة حسب الاتجاهات الحديثة في الإدارة مجرد تسيير شؤون المدرسة سيرا روتينيا يتحدد في المحافظة على النظام ، والتأكد من تطبيق المنهاج ، وضبط الحضور والغياب ، على أهمية ذلك طبعا ، بل أصبح محور العملية الإدارية يدور حول التلميذ من حيث توفير كل الظروف التي تساعد على توجيهه روحيا وعقليا وبدنيا ... كما أصبحت مهمتها تدور حول تحقيق الأهداف الاجتماعية التي يدين بها المجتمع ، حيث تأتي الوظائف الإدارية لخدمة هذا الهدف السامي والأساسي . هذا المفهوم الجديد للإدارة المدرسية يعني ضرورة عناية المدرسة بدراسة المجتمع والمساهمة في حل مشكلاته وتحقيق أهدافه ، والذي يعني بالضرورة مزيدا من التلاحم والتقارب والاتصال والمشاركة بين المدرسة والمجتمع . غياب هذا الدور الريادي والقيادي لأسرة المدرسة ، أدى إلى نتيجة عكسية تماما .. فبدل أن تقوم المدرسة بمهمة الإصلاح المجتمعي الشامل ، انتقلت أمراض المجتمع إلى المدرسة ، فأصيبت بسبب ذلك بذات الأمراض وعلى رأسها العنف واللامبالاه وعدم الاكتراث وضعف الانتماء والأنانية واختلاط الأوراق والأولويات ، وضعف الطموح وضحالة الأحلام وركاكتها ، وتقديم ما يجب تأخيره وتأخير ما يجب تقديمه ، إلى غير ذلك من الأمراض المجتمعية ، فأنى لمدرسة أصيبت بكل هذه الأمراض أن تلعب دورا إصلاحيا في المجتمع ؟؟!!...
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.co.il