قد يبدو من الغريب ان نسأل ما هو الهدوء النفسي باعتبار الامر واضح وبديهي للجميع .. فهو (هداة البال ) الذي يبدو انه يتم للمرء بعد الحصول على الامكانيات المادية اولا ، ثم المؤهلات الاجتماعية ،لضمان تحقيق الاهداف المادية والاجتماعية : بناء بيت ،زواج ،حصول على شهادة علمية ،عمل ،مهنة معاش الخ..عادة هذه هي العناصر الأساسية العامة التي اذا توفرت توفر معها الهدوء النفسي ..
أليس كذلك ..؟ .. لكن الواقع لا يوافقنا تمامًا، حيث مع توفر كل مقومات الحياة الاجتماعية "السعيدة" وعلى طول مسار السعي في طلبها، يرافقنا قلق دائم يطل من وراء كل ما نقوم به بدرجات متفاوتة ، حيث المجهول يحيط باللحظة الحاضرة كما بالتي ستأتي بعدها .. وحيث من سوء تقديرنا ، أو لسطحية تفكيرنا ولقصر نظرنا لا نولي هذا القلق اهمية خاصة ، لا نحاول فهمه ، فهم طبيعته ،جوهره منبعه .. الخ ونقصر استجاباتنا لما يفرضه علينا طموحنا الشخصي في اطار(الواجب) الذي قرره لنا (المجتمع)او النظام العالمي ،أو ما لا أدري .. وكأن حال النظام الذي يفرض علينا النمط والاسلوب والقيم والثقافة وكل شيء .. يقل لك : يجب ان تقلق لهذا الأمر او لذاك مما اقرره انا لك وبالصفات والتوجهات التي انا اراها ،وليس لما يتسرب وحسبما يتسرب اليك من ايحاءات وجهات اخرى .. ولكن بما ان نظام العيش في ظل الدولة والمجتمع ، الذين أوليناهما مهمة التفكير والبحث بدلا منا عن ما يراد ان تكون عليه سعادتنا ومصلحتنا ووجودنا ، دون شرط او قيد ، ودون مشاورة لنا في الموضوع ،ودون اكتراث بوجهة نظرنا وقناعاتنا ورؤيتنا ،وبما ان هذا النظام لا يجلب لنا (البضاعة )الشافية ،او على الأقل المتمشية مع علاج القلق النفسي في جوهره ، فإن من احترام النفس ومن إيلاء انفسنا مسؤولية قيادة انفسنا بحكم نعمة، أو لعنة العقل فينا – لا ادري – يتوجب علينا معالجة هذا القلق المرافق لكل خطوات سعينا في الحياة ،بصورة مختلفة عما يقترحه ويقدمه لنا اختصاصيو الطب النفسي الحديث ،وموظفو الشؤون الاجتماعية ،أو مختلف المعالجين الشعبيين بالرقى والتعاويذ والابراج والفنجاين والوصفات وما الى ذلك .. هناك قلق يساورنا في كل حال وفي كل مكان ،وحتى في المعبد – ربما خصوصًا هناك – لما اقترفناه من ذنوب وآثام ..حيث مع طلب الطمأنينة يترافق شعور من الرهبة والخوف ..! وحتى ونحن في نزهة خصوصية للترويح عن النفس وللتخلص من مسببات القلق النفسي ،يحضر معنا هذا الاخير كضيف ثقيل .. اجل هناك حيث يوجد انسان يوجد قلق نفسي ، وحيث يوجد عقل ونشاط عقلي يوجد قلق نفسي ،قلق ظاهر وخفي ..
والخفي والغامض أشد ازعاجًا من المعروف بأسبابه الخاصة والعامة .. وهو ما يهمني هنا في هذا السياق .. إذ ان القلق النفسي بأسبابه المعروفة نعرف كيف نعالجه وكيف نواجهه ، أما غير الواضح وغير المحدد بأسبابه هو ما يحتاج لتحقيق لبحث ،تفتيش ،حفر ،تركيز وتأمل .. وهو ما يحتاج لمحاولة دائمة للخروج به الى البعد الآخر غير المحدود من الوعي وغير المقفور من الادراك .. ليس القصد فقط مجالات داخلة في نفس الطبيعة التي نُشبِع ، أو نحاول ان نُشبِع فيها ومنها عقلنا وما يشتهيه قلبنا .. اذ لا نلبث كثيرا من الوقت بصحبة الغرض الجديد أو الوضع الجديد أو المكان الجديد أو الكتاب الجديد أو الكليب الجديد الذي حصلنا عليه ، حتى نكتشف انه قديم قدم الوجود الفكري والذهني والحسي لوجودنا على الأرض .. وبالتالي فإننا سنفهم أيضا أولا : ان قلقنا النفسي ليس عبثي وليس مرضي وليس محض سلبي .. إذ هو يحثنا على ان نتخطى المستوى "الطبيعي النرمالي" للفكر والحس ،الى حيث يتشكل هاجس القلق وينبعث من العمق الخفي الى السطح الى مداركنا العادية .. يجب ان نحاول تفهم هذا القلق بدل التبرم به وبدل علاجه في مجرد شمّات هوى وفي إشباعات عادية مختلفة ..ولقد قامت مراكز ابحاث علمية عديدة في مختلف انحاء العالم ، وألف كثير من الكتب من قبل اطباء وبرافسرة مختصون في علاج "مشاعر الضيق والقلق والكبت والخوف والتوحدن .." إلخ . قرأت بتمعن بعضًا منها في اللغتين العربية والعبرية ،وكان جميعها – وباعتراف صريح من بعض المؤلفين – د . "ايلان شليف" مثلا ،وزملاء آخرين في مؤلف لهم بعنوان : "المشاعر" ان ابحاثهم لا تتجاوز نطاق معالجة الانفعالات والمشاعر عن طريق تقنيات فكرية ونفسية وأدوية معينة ،دون غوص في اعماق النفس لمعالجة الامراض والأعراض العامة من الجذور ،فهذا الامر - ربما - تتولاه المعتقدات الدينية وبعض الفلسفات حسب تقديرهم ،فالعلم بمفهومه الرسمي لا زال مُقصِّر عن تحديد ماهية الانسان وماهية الكون .. وصدِّق لن يساعد في سبيل اذهاب القلق الغامض كأس شراب ولا زجاجة ولا حتى حانة او بار بأكمله .. وطبعًا كذلك المخدر بأنواعه ،بل من المعروف ان كل ذلك يأتي بنتيجة عكسية مدمرة ..
إذن كيف يمكن معالجة القلق النفسي الغامض ؟
وهو بالأحرى السؤال نفسه ، كيف نحصل على الهدوء النفسي ؟
ليس لدي اجابة قاطعة ،ولا أظن يمكن لأحد ان يملك اجابة كهذه .. في أفضل الأحوال يمكن للمستنير بالتجربة الوجودية الروحية المباشرة ،ان يقدم اشارات في الاتجاه الذي يمكن من ورائها الاستضاءة بالتجربة نفسها ،حيث حقيقة الوجود هي ذاتها لدى الجميع ولا تحددها عقيدة ولا فلسفة ولا وجهة نظر معينة مسبقا .. وفي ضوء التجربة ذاتها أقول : ان جميع المعتقدات والعلوم والفلسفات والفنون ، التي هي انعكاس لهذا القلق في النهاية ، والتي اوجدت كعلاج لهذا القلق – بوعي وبغير وعي – هي ذاتها حاجز وعائق وحجاب يجب اختراقه لوعي مطلق ، يقف فينا من ورائها جميعًا ،حيث فيه يتفكك كل توتر ويختفي كل تفكير ويخمد كل نشاط ، إثر ومضة كشف عن جوهر وجودنا – خارجة عن القاعدة الادراكية - وعمليًا ان هذا المطلق من الوعي الخالص ،هو الفضاء اللامتناه، الذي منه تنبعث جميع النشاطات ،واعية وغير واعية ، دينية وفنية ،وهو الذي يستقبلها عبر حجاب العقل جميعا بمجرد حضوره.. كما يجذب المغناطيس من وراء ستار، وكما تؤثر الشمس من وراء الغيوم .. لكن العقل لا يصدق هذه الرواية الصادقة ،لأنه يظن انه صاحب الجهد مستقلا عن المطلق ،رغم كونه إختزالاً لا إراديا للوعي المطلق ،كالقمر " يعتقد" انه يضيء من ذاته مستقلا عن الشمس .. ويعود عجز العقل ايضا لكونه تأكيديًا قاطعًا بطبيعة علاقته بالجسد وتشخصه فيه وتماهيه به كمنطق بشري محكوم بقابلياته الذاتية والحسية . ولذا فإن تخطي العقل جدليا وعرفانيا، لا عقائديا، هو ما يضعنا على طريق معالجة القلق النفسي الغامض . وربما صحيح القول ايضا ،ان الخضوع للمطلق يساوي معرفته ، لأن التجرد والتحرر من التعلق بشخصيتنا هو مقتضى الحالين في سبيل كشف الحقيقة ،حيث ان القلق يتمثل عادة بالتمسك غير المعقول بشخصيتنا، هذا مع العلم المسبق بزوالها السريع ،وهي حجاب يختزل المطلق فيه بصورة جاهلة مضللة . وهنا أراني أعود التقي بالمعتقدات الدينية لأتم المصالحة معها باعتبارها هذا المثال والتمثيل للمطلق في شتى صوره وطقوسه وانعكاساته الوجدانية والحسية ،وان كانت قابعة جميعًا في الجانب المظلم للمطلق .. رأيت المطلق في كعبة المسلمين ، كما رأيته في مساجدهم ، ورأيته في كُنُس اليهود ، وفي كنائس المسيحيين ،كذلك في مقامات الشيعة والدروز .. رأيته في جُمجُمة يتكيء عليها يوغي هندوسي ، كما رأيته في تماثيل الوثنيين .. ما يستدعي لاستشهاد ابن عربي ..
لقد صار قلبي قابلا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف والواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net