الخروج من الأزمة الأخلاقية التي تعيشها منظومتنا التربوية لن يـتأتى من خلال استيراد قيم مقطوعة الصلة بالاسلام وحضارته وثقافته ولن يتحقق كذلك بتبني الصيغ الخطابية و الوعظية
ليس بدعا القول بأن مشهدنا التربوي ، بالرغم مما أحرزه من تطور ملموس في تخطيط و إعداد المناهج و البرامج الدراسية ،وإدماج مستجدات المعرفة الانسانية ، إلا أنه بات قاب قوسين أو أدنى من عتبة الإفلاس الأخلاقي . ومردود ذلك بالاساس الى تضافر عاملين اثنين :
1- هيمنة النزعة التقنية على التعليم منذ مطلع الثمانينات بفعل الوثوق المطلق بالعقل والانبهار بالانجازات الكبيرة التي حققها العلم المعتمد على الطريقة التجريبية. فانبنت التربية على تشكيل السلوكيات وتلقين المعارف والمهارات المرتبطة بالعالم المادي و خبراته.
صورة توضيحية- تصوير : Thinkstock
2- التحولات البنيوية الكبرى التي شهدها العالم على كافة الأصعدة ، وانعكاسها السلبي على الهوية ومنظومة القيم العربية والاسلامية، حيث تشكلت جبهة تغريبية سعت جاهدة إلى قطع الشريان الممتد بين السلف والخلف ، والانحشار الكامل في معطف الغرب لتحقيق الرقي المنشود!
فتنامت الظواهر السلبية الخطيرة التي حالت دون تحقق المنتظرات التربوية ، وأهدرت الأموال والجهود في علاج اختلالات سلوكية ونفسية ناجمة عن استهلاك المنتوج المستورد ! وفي مقدمتها : العنف المدرسي ،والانحلال الخلقي ، والتفكك الأسري .. فلم يكن بد من الاعتراف بقصور المناهج الحالية ،والدعوة للاهتمام مجددا بالبعد الاخلاقي وإدماج ما اصبح يعرف ب"التربية على القيم" .
الشرط الأول
بيد أن جملة من التساؤلات تفرض نفسها في ظل صحوة الضمير هاته التي تشهدها المنظومة التربوية ،وتهم بالاساس آليات تفعيل البعد الأخلاقي داخل مجتمع المدرسة ، وطبيعة القيم المراد تلقينها وحمل المتعلم على التحلي بها ، ومدى استعداد الفاعل التربوي المسؤول عن أجرأة المنهاج الدراسي للانخراط في هذه المبادرة التصحيحية ! ان اعتماد التربية الأخلاقية او "التربية على القيم" كمرتكز ثابت في الإصلاحات التربوية الجارية يحتم أولا تحديد مرجعية المنظومة الأخلاقية المراد تمريرها ، هل هي مرجعية إسلامية صرفة ، أم مستحضر هجين يتداخل فيه الديني مع الفلسفي و الحقوقي ،ويتحكم في دواليبه السياسي و الايديولوجي ؟! فالدعوة الى إكساب قيم كالتسامح و الانفتاح على الآخر و الحق في الاختلاف هي دعوة يلفها الغموض و اللبس في ظل تناسل بؤر التوتر على امتداد العالم العربي والاسلامي " فلسطين ، أفغانستان ، السودان ، الصومال ،العراق..." وتنامي الوعي بأشكال الغزو الفكري و الثقافي ،والرفض المتزايد لمظاهر الكراهية و الغطرسة التي يسم بها الغرب سياسته ومواقفه تجاه كل ما هو عربي و إسلامي . كما أن إقبال المتعلمين على الوسائط المعرفية الجديدة التي أفرزتها الثورة التكنولوجية ، وما رافقها من تحرر نسبي لوسائل الإعلام يثير الشك حول جدوى هذه القيم ، و يحد من فاعليتها في التأثير على سلوك ومواقف المتعلمين !
الشرط الثاني
أما الشرط الثاني فيتمثل في استلهام الاسلوب الأمثل لتمرير الرصيد الأخلاقي ،وهو ما يقتضي رصد ا أوليا للاتجاهات المتعددة التي عنت بتلقين القيم ،و يمكن حصرها إجمالا في خمس اتجاهات بناء على آراء عدد من فلاسفة التربية بشأن الاخلاق :
* الاتجاه الأول : يرى أن التربية الأخلاقية تتحقق من خلال العادة أي ممارسة المباديء الأخلاقية زمنا طويلا حتى تصير عادة تصدر عن المرء تلقائيا من غير تفكير وروية كما تصدر الأفعال الغريزية،ومن أنصار هذا الاتجاه : أرسطو ، و الغزالي، و ابن سينا ،و جان جاك روسو ،و جون لوك..
* الاتجاه الثاني : يعتبر أن التربية الأخلاقية هي تكوين "بصيرة" أخلاقية عند المرء يستطيع بها التمييزبين سلوكي الخير والشر، ومن ثم فعلى الإنسان أن يتبع الأخلاق الفاضلة لأنها سلوك إنساني يجب اتباعه لا لأنها تجلب له الخير والسعادة . ورائد هذا الاتجاه المميز هو الفيلسوف المعروف ايمانويل كانط .
* الاتجاه الثالث : يرى ان التربية الأخلاقية تقوم على مبدأ التلقين، أي أسلوب" افعل و لا تفعل" دون بيان قيمة الفضائل أومضار الرذائل وأبرز من دعا لاعتماد هذا الأسلوب هو الفيلسوف " سبنسر".
* الاتجاه الرابع : هو الاتجاه الصوفي الذي يؤكد أن إكساب المتعلم الأخلاق الظاهرية لن يؤدي إلى أي تعديل في السلوك و المواقف ما لم يسبقه تطهير للنفس من كل الرذائل ، فالمدرسة الصوفية تؤمن
بأن الكمال الخلقي يستلزم التخلية أولا ثم التحلية وصولا إلى مرحلة الشهود و الثبات في الحضرةالالهية ،وهي بذلك تتجاوز الاعتياد و البصيرة و التلقين نحو ما أسماه غوستاف لوبون "التأديب الباطني" .
* الاتجاه الخامس : دعت إليه المدرسة الاجتماعية ممثلة في أوجست كونت ،وليفي بريل،ودوركايم،و يقوم على اعتبار وظيفة التربية الأخلاقية هي تكوين استعداد أخلاقي يتحول بسهولة و تلقائية إلى سلوك عملي في المواقف التي تتطلب عملا أخلاقيا . (*)
ثم السعي إلى الملاءمة بين هذه الاتجاهات وتفادي الانتقائية ! ،لأن مفهوم الأخلاق ، خصوصا الإسلامية، هومفهوم واسع و شامل يتجاوز ما جاءت به كل الأديان والفلسفات ، إذ تندرج في إطاره حتى علاقة الإنسان بغيره من الكائنات الأخرى !
الشرط الثالث
أما الشرط الثالث فيتمثل في تأهيل الفاعل التربوي وتمكينه من الأدوات اللازمة لأجرأة هذا المدخل . فمن المسلم به أن أدوار المدرس عرفت تراجعا هاما منذ تبني النزعة التقنية في التعليم ،إذ انحصر دوره في تنفيذ المقررات الرسمية ،والالتزام بجدول مهام محدد سلفا ، فتراجع حضوره الرمزي و دوره الآكد في غرس القيم ،و التنشئة العاطفية ،وتمكين المتعلم من تمثل "القدوة الحسنة" .
وهوما يتطلب تمكين المدرس من هامش أوسع في التصرف ، وحفزه على المبادرة و تبني أساليب مبدعة في التواصل مع المتعلمين ، إضافة إلى صيانة كرامته و نبل رسالته من العبث الإعلامي !
على سبيل الختم
إن الخروج من الأزمة الأخلاقية التي تعيشها منظومتنا التربوية لن يـتأتى من خلال استيراد قيم مقطوعة الصلة بالاسلام وحضارته وثقافته ،ولن يتحقق كذلك بتبني الصيغ الخطابية و الوعظية ، وانما بالرصد الواعي لمكامن الخلل ، و استلهام الرؤية التصحيحية من رصيد الأمة الديني والأخلاقي ، وهو ما يتطلب جرأة في القطع مع القيم المستوردة !!
موقع العرب يتيح لكم الفرصة بنشر صور أولادكم.. ما عليكم سوى ارسال صور بجودة عالية وحجم كبير مع تفاصيل الطفل ورقم هاتف الأهل للتأكد من صحة الأمور وارسال المواد على الميل التالي: alarab@alarab.net