المفكر الحقيقي هو الذي يهتم بالحقيقة ولا يبحث عن القارىء .. فأولا وأخيرا الحقيقة حتى وان لم يوجد من نيام البشر من يستيقظ من نفسه كي يراها ويتحقق بها ،ربما لهذا السبب تحولت ثقافة العقل في هذا المستوى الى ما سمي بالمثالية وبالثقافة الارستقراطية ،من حيث احتفاظها في عقول ونفوس اصحابها على قيم ومعايير، لا يمكن للحقيقة ان تظهر وتتحقق بدونها ..
وهذا الامر ليس بجديد طبعا ،وقد تطرق اليه بعض الفلاسفة .. منهم افلاطون قديما وبرناردشو حديثا .. وهذا لا يعني طبعا ان كل اديب بالضرورة لا تعنيه الحقيقة في ذاتها – وقد تطرقتُ في غير هذا المقام للفرق بين الحقيقة في ذاتها ،وبين الحقيقة في ما تبدو عليه على المستوى العرفاني التجاوزي،كعلاقة بين جوهر الوجود المجرد، وبين ظواهره وانعكاساته المختلفة التي هي هذا العالم وسواه – وإذ أقيمُ هنا المقارنة بين المفكر والاديب ،لا افعل ذلك ازاء نموذجين محددين نهائيين مقفلين ،بل اقصد الى ابراز نزعتين وصفتين ،قد تفصل بينهما مساحة من القيم والمفاهيم والتوجهات الثقافية والوجودية، على قدر ما يمكن ان توحّد بينهما، عبر جدل الاضداد .. مثلا أجد بطبيعة الحال ان الادب نفسه يتطلب العناية بصورة خاصة وبارزة بالاشكال المختلفة للتعبير الفني الجمالي ،وان هذا الامر يأتي في الغالب على حساب الحقيقة ،سواء كانت الحقيقة المعاناة نفسها أو موضوع المعاناة .. حيث كلما كانت العناية منصرفة أكثر الى هم الشكل في التعبير ،كانت على حساب الحقيقة أكثر .
وقد يبذل الاديب – سواء كان شاعرا او قاصا او غير ذلك - الكثير من الجهد والوقت والنظر في البحث والتفتيش عن التسويات والملاءمات والصور والالحان الجمالية الجذابة ،على حساب التعبير الاكثر صدقا ومباشرة عن المشاعر والمقاصد الاولية العفوية داخله .. وهذا ما يجعل الادب يدخل في مفهوم الصنعة والصناعة ،وفيما سمي على ألسنة "مهندسي" الادب ونقاده القدامى " كمحسنات بديعية " حتى ليبرز التكلف بصورة غالبة مبتذلة في كثير من الاعمال لدى البعض من الشعراء والادباء ،ويتحول الكاتب هنا اكثر الى مطرب وراقص استعراضي ،حيث على قدر ما يجيد الغناء والرقص يحظى بالاعجاب والتصفيق والمديح وعلى شعبية وشهرة ،بينما هو من حقيقة وجوده نائم حالم .. وفي الواقع لم يعترض افلاطون على الشعر والشعراء الا لهذه النتيجة التي ينتهي بها الشاعر الى ضلال وابتعاد عن الحقيقة مع نفسه ومع جمهور القراء والمستمعين ، حيث يتحول من صاحب رسالة صدق الى رسالة كذب، باعتبار ان معيارية الصدق تتمثل فيما قصد بصورة واعية ومخلصة الى حقيقة الوجود في ذاتها عموما،ومستوى علاقة الشخص بها،بينما الكذب يتمثل فيما تعلق واشترط بانعكاسات الحقيقة عَرَضًا – سواء في حياة الشخص الخاصة والعامة - .. والادب ، والشعر خاصة يدخل في لعبة الانعكاس الفضفاض اكثر من سواه .. هذا رغم ان افلاطون كان كما يخبر التاريخ هو نفسه شاعرا ،وقد انتبه الى ما ينتج عن هذا النشاط من سحر وتضليل وابتعاد عن الحقيقة ،فتوقف عن ذلك النشاط ،الذي كان في ذلك الوقت هو والمسرح بتأثيرهما كالسينما في عصرها .. لكن رفض التعامل مع الفن عموما ،ومع الادب ، والشعر خصوصا من هذا المنطلق حصرا ،هو تطرف ضد الشعر ،إذ ان الشعر كما يمكن ان يكون وسيلة زخرفية لكسب الشهرة والاعجاب – المال ربما ايضا – يمكن ان يكون وسيلة اصلح وادق احيانا لتوصيل الحقيقة والمعاناة والقيمة والمفهوم الخ كما برز لدى العارفين من الصوفية وسواهم .. كذلك طبعا الملتزمون الصادقون بمبادئ وقضايا الانسان السليمة المحقة ، ممن لا يتلونون ويؤلفون حسب طبيعة المناسبة فقط من اجل المشاركة والظهور ..
وكما يستعمل الشعر والفن عموما كقيمة جمالية في ذاتها في سبيل التمتع بالجمال ،كمطلب طبيعي يعبر عن نزعة جمالية طبيعية مغروزة في النفس البشرية ، بغض النظر عن المناسبة .. كتناول الروعة الكونية وسحر الطبيعة والمرأة والخمرة ، بالوصف والتعبير عن الشوق والنشوة والرغبة في الاتصال والتوحد ،او الانسلاخ والنفور والابتعاد في حالة مضادة ،حاقدة وتدميرية احيانا كما لدى نيتشه والفوضويين ..وهنا يجب التفريق والتمييز بين كون الشعر تعبير حي عن تمازج اصيل بين الحقيقة والجمال ،وبين استغلال الناحية الجمالية لخدمة اغراض مناقضة او مجافية لقضايا الحقيقة والواقع،أي لمبدأ الخير والحق في هذا المقام .. فقد يحمل الشعر السلبي اخلاقيا في مضمونه ، جمالا أخاذا ساحرا في مظهره وازيائه وخلابته .. والعكس صحيح ايضا ،اي ركيكا مبتذلا في مظهره ،ذا قيمة اخلاقية انسانية في مضمونه .. امر التمييز برمته يتوقف على العمق او السطحية في ثقافة القارئ وفهمه وهمه ..واذا كانت مهمة الاديب الاجتماعية الافصاح عن المطالب والمشاعر التي يعجز الانسان العادي التعبير عنها ونقلها من حيز الكمون ،غير المتشكل الى حيز الظهور في صور مقروءة واعية ،وكمساهمة لتمكين الفرد العادي من فهم نفسه وواقعه بصورة اكثر وضوحا ومشاركة ،بالتالي ليكون اكثر صدقا وصراحة مع نفسه وغيره .. فإن مهمة المفكر تتمثل في البحث عن كيفية رفع وتعميق مستوى تلك المطالب والمشاعر ،والكشف عن طبيعتها ماهيتها جوهرها ودلالاتها الحقيقية ، ليصبح تبنيها والاخذ بها صحيحا وسليما اكثر، وبالاتجاه الذي يخدم اهداف الوجود الحقيقية ،وليس فقط فيما تبدو عليه من مظاهر وانعكاسات على سطح الحواس .. ويصح ان نقول هنا ان مهمة الاديب اخلاقية ،ومهمة المفكر والناقد علمية ،وهما مكملين احدهما للآخر ..وهناك من جمع بين الصفتين كأفلاطون نفسه ،الجاحظ ،المعري ،برناردشو ،طه حسين ،جوتيه ،أدونيس (العربي) مارون عبود ،وآخرين كثر قديما وسيطا وحديثا ، كل ومستوى علاقته بحقيقة الوجود .. فلا يجوز الفصل – من وجهة نظري – بين الفن وبين غايات الوجود الانساني وقيمه الاساسية ،بغض الطرف عن اسلوب التعبير وشكله .. وغايات وجود الانسان هي ذاتها محركات جميع نزعاته وتصرفاته واحلامه في النهاية ،مهمى تباعدت وتنافرت نزعاته المتضادة في وحدة الجدل ،التي هي الحق والخير والجمال ، دون اية فواصل بينها في الجوهر ،فهي ثلاثة في واحد ،العقل الوجدان الحس في ماهية الروح ،أي ماهية الوجود .
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net