الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: السبت 09 / نوفمبر 23:02

كميل شحادة يكتب على موقع العرب:القدر السلبي

كل العرب
نُشر: 15/08/12 15:03,  حُتلن: 11:42

تجميع ، تخزين ، تركيب ، تكثيف ..
نحن نجمع .. نجمع للمستقبل ، نجمع للضرورة ، نجمع للكيف ، للسعادة للمتعة ، للتحسب والأزمات ،نجمع ونراكم أغراض أشياء مواد غذائية ، نجمع تحف ، أدوات عمل، وسائل ترفيه ، ثياب مال ، ساعات عمل، أفكار معلومات دهنيات .. ومن مختلف صور التجميع والحشد والتكديس ، فقد الإنسان ذاته فقد وجوده فقد حريته .. ونتيجة لهذه الحركة المتواصلة لهذا التجميع والتكثيف والمراكمة أضحى سطح الأرض شيء مريع شيء لا يطاق ، أبنية ، شوارع ، مصانع ،ملاعب ،مقاهي ،مطاعم ،معابد، مرافق ،معسكرات ،منشئات عامة ، ملاعب ، مقابر طردت الطبيعة بخضارها وصفارها وحمارها وبياضها وسائر ألوانها ، وحجبت بغبار ودخان أطماعها زرقتها ، وتطاولت إلى أعماق الفضاء وإلى أعماق البحار والمحيطات تعيث فسادا ودمارا وتخريبا .. أصبحنا ثقيلو دم لا نطاق ولا نحتمل لا على أنفسنا ولا على الطبيعة ..ان المعابد التي تغطي مساحات شاسعة ،أقيمت جميعا بكل مذاهبها على معبد واحد اسمه الارض ،اسمه الطبيعة ،بينما جميع القباب المحدبة المصنوعة من اسمنت ورخام ومطلاة بالاخضر او الابيض او الازرق او المذهب او الاسود وغير ذلك ، كلها على حساب السماء وعلى حساب التواصل المباشر مع الله .. أما سائر مؤسسات الارض لم توجد لسد حاجات الانسان بقدر ما وجدت للاتجار بعقله ونفسه ودمه ولحمه ..


فكرة الحرية والتحرر :
إن فكرة التحرر التي يستخدمها كل من رجل الدين والسياسي والمثقف ، لا تعبر في الحقيقة عن معناها الحقيقي ،لأن كلٌ ينطلق بكل مفاهيمه من داخل ارث مسبق ،من مكتسبات معرفية معينة ،كل ينطلق من داخل مربعه من داخل مرجعه ،من قالبه ، من داخل بيئته ،مجتمعه ، من زاوية فهمه الخاصة أو العامة .. كل ينطلق من الماضي الذي هو مجموع ما تراكم وتركب من معلومات وتأثرات وصور ومشاهدات وأحاسيس واعتبارات وظروف الخ .. فلا يوجد حاضر بالمعنى الحقيقي على المستوى الزمني ،فالحاضر هو الماضي بكل احتقاباته وتعقيداته ومؤثراته واشكالاته يمشي في صورة بشري على الارض ،يتكلم يفهم يحب يكره يعتقد يقرر .. وفي كل ذلك لا يوجد حرية ولا يمكن في اطار هذه الغرضية " المقدسة " المتراكمة حصول تحرر . انت في الحقيقة جزء لا يتجزأ من الحرية من الطبيعة ومن الله في آن .. ولكي تشعر بذلك عليك ان تتصل بذلك ، ولكي تتصل بذلك عليك ترك الماضي ،هذا الماضي الذي هو انت كيهودي وكمسلم وعربي وفرنسي وروسي وهندوسي الخ ،وكفرد ايضا ليس له ولاء الا لأهوائه ومعتقداته الخاصة .. فالله ليس ماضيا وانت كمؤمن تفكر وتفهم من الماضي من الزمني الذي لا يلبث لحظة في الحاضر حتى يصبح منتهيا وشيء من الذاكرة ، شيء ميت .. انت اذ تتعامل مع الحرية او مع الله من الماضي ،انت عمليا ميت تعيش في مقبرة وتتعامل مع اموات وتريد الاتصال بالحي القائم (هنا والآن) .. الحرية ليست فكرا ولا تفكيرا .. عندما تفكر في الحرية او في الله او في المحبة ،انت عمليا تحيل كل ذلك لفكر مجرد .. انت لا تستطيع الاتصال بالحقيقة التي هي حرية تامة من كل ماض من كل زمني ، عن طريق صلاة او تفكير او نشاط معين .. فالتفكير حركة من نقطة فكرية الى اخرى ،وهي عملية زمنية من لحظة الى لحظة الى لحظة وهكذا دواليك ، بغض النظر عن المضمون المجرد ،الشعوري أو العملي والمادي للتفكير ،هي حركة تحمل صفات معينة ، تخرج من منطلقات تعود اليها في دوران يكرر نفسه بصور جديدة ،لكن من نفس المادة السابقة والجاهزة .. سواء كانت العلاقة بالله او بالحرية تحمل صفات ومعان متخلفة او تقدمية لا فرق في هذا المستوى .. فلا يوجد شاعر ، عالم ، يعرف كيف تمت له القصيدة ،او المعادلة – سواء ابان حدوثها ، قبل ، اوبعد ذلك – تماما كما لا يعي البدائي طبيعة وكيفية حدوث التعويذة التي يتمتمها . انت مشارك في كل ما تفكر وتعمل وليس صاحب التفكير والعمل المحيط اراديا وبجذور الفكر والعمل .. وعندما تحاول الاتصال بالله او الحقيقة او الحرية المحبة وما تشاء، وهي شيء واحد مصنَّف ومقنَّم في الفكر فقط لمقامات مختلفة ،انت عمليا تكوِّن ذلك كله فيك ، تمنحه صفاته مميزاته من نفسك ومن فكرك دون شعور واع ..


ولذلك فان عملية التأمل الهادئة من خلال التحليل الذاتي ومن خلال التحقيق في النفس بنظر باطني ساكن محقق ، يؤدي الى اختفاء فجائي للفكر ،أي للزمن واذ ذاك يتم الاستيقاظ والخروج من الصورة الذاتية المزدوجة ( ذات - وموضوع ) التي هي تقارن وهمي لوعيك المطلق مع الفكر والجسد .. كأن الادراك نقطة نور تأخذ بالاتساع من مركز الوعي لتشمل كل مساحة الوجود الذاتي ،الذي فيه ومنه يتخذ العالم الخارجي فعل ظهوره ، بما في ذلك جسدك وفكرك.. على ان الوعي بهذا الحال لا يتم انطلاقا من فكرة مسبقة او من مرجع خارج الوعي بالذات ، والا فان كل نتيجة تعود بجوهرها لمنطلقها ، للطبيعة التي اعتبرتها وحددتها فيك ،فاذا منحتها صفة ما ورائية خارج الكون ،تكون قد احلت ذاتك لهذه المرجعية الوهمية غير اليقينية وغير التجريبية .. كذلك حين توكل معرفة ذاتك لشيخ ،لكاهن ،لمعلم ،لمدرسة ،لطريقة ،لتقنية ، لفلسفة ،لمذهب تكون قد حددت وشرطت ذاتك بمفاهيم وبافكار وبممارسات من خارج ذاتك ،التي لا يمكن ان تستمد اليقين تجاهها من خارجها بطبيعة الحال ،اذ اليقين امر محض ذاتي لا يستمد من خارج الذات مهمى حمل من صفات مقدسة وعليا وعلمية .. ويصدق سقراط بمقولته الشهيرة "إعرف نفسك بنفسك" بينما هرمس يؤكد : " يانفس لا يوجد خارج ذاتك شيء مما يجب ان تطلبي علمه .. بل هو فيك بلا غيار ولا غيرية منك " فليس فقط اليقين هو ذاتي بل والغاية ايضا .. غاية اليقين وغاية المعرفة هو الذات .. وفي الواقع ان عملية الرجوع في المعرفة الذاتية الى مرجع من خارج الذات ، لا يعني عدم ضرورة الاسترشاد باشارات وتوجيهات معينة تماما .. ولكن يعني امرين أولا : ضرورة الفهم من البداية ان كل اشارة توجيهية – بغض الطرف عن مصدرها – لا يجوز ان تقدس او تحمل صفة ميتافيزيقية ،او ان تكون ذات اهمية اكثر من ذات الانسان نفسه .. ثانيا : علينا الفهم ان المعرفة اليقينية للذات هي مصدر كل يقينية لكل شيء ،وهي لا تصبح كذلك الا بتحرير الوعي من المفاهيم المقدسة الخارجية ،ومن الاطماع الشخصية ،ومن الشهوات المفرطة ،التي هي عمليا علة استمرار القدر السلبي الحاجب للذات والمراكم للقيود عبر التطور وعبر التاريخ .
واذا كان هذا القدر السلبي السالب والحاجب يبنى من خلال عملية تخزين وتركيب وتكثيف ،فان عملية التحرير للذات عكسية ،اي تفريغ وتفكيك وتلطيف ، ليجد الذات بساطته النهائية الخالدة التي لا تُفكك.

موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net
 

مقالات متعلقة

.