صالح ذباح في مقاله:
فترة التسعينيات شهدت انتقالا لكثير من المطربين والمطربات من كلاسيكية الثمانينات الى حداثة التسعينيات
بعد أن كان الالبوم الغنائي يحتوي على اغنيتين او ثلاث تزايد عدد اغاني الالبوم الى ستة او ثمانية ممهدا لفترة الاستهلاك الغنائي اللاحقة الذي فرضته شركات الانتاج فيما بعد
صلاح الشرنوبي حقق نجاحه الاول مع المطربة وردة الجزائرية بأغنية "بتونس بيك"(1991) ورغم عدم دراسته الاكاديمية للموسيقى شكلت موسيقاه عامودا فقريا لاغنيات تلك الحقبة
تولت مصر مقاليد صناعة الاغنية العربية الحديثة منذ بداية عشرينيات القرن الماضيِ،فوضع أب الموسيقى العربية المعاصرة الشيخ سيد درويش أسسا للأغنية أهم ما فيها فيها مواءمة ما بين اللحن والكلمة للخروج باحساس يخدم معاني الشعر المغنى ونهض بالموسيقى المصرية والعربية نحو التطور،خلفه-بل خرج من عباءته- في صناعة الموسيقى رواد عديدون من اهمهم محمد القصبجي،رياض السنباطي، زكريا أحمد ومحمد عبد الوهاب وصولا الى الموسيقار بليغ حمدي،الذي كان حاملا على أكتافه صياغة الجمل اللحنية والاغاني الوطنية والعاطفية والوجدانية وأسس لمرحلة جديدة طوال عقدي السبعينيات والثمانينيات بل ولا نزال نعيش امتدادا لمدرسته التلحينية حتى يومنا هذا. بالوصول الى حقبة التسعينيات أرى انه لمن المنصف نسب تسميتها الى ذاك الملحن الذي سكنت الحانه كثيرا من بيوتنا وأفراحنا ومقاهينا وسياراتنا،فهي بلا شك المرحلة "الشرنوبية"!
المرحلة الشرنوبية
صلاح الشرنوبي الذي حقق نجاحه الاول مع المطربة وردة الجزائرية بأغنية "بتونس بيك"(1991)،ورغم عدم دراسته الاكاديمية للموسيقى،شكلت موسيقاه عامودا فقريا لاغنيات تلك الحقبة،فانطلق يشكل أبرز الملامح الموسيقية لمرحلة التسعينيات بألحانه التي تميزت بالدمج ما بين الجمل العصرية الراقصة والشرقية التطربية في الان ذاته،ونال الاكورديون النصيب الاكبر من شكل التوزيع الموسيقي لاعماله بل يمكننا القول انه عقد الاكورديون بجدارة! من اهم اعماله على سبيل الحصر لا القصر:"حرمت احبك"،"مغرم يا ليل" ،"بحب في غرامك"،توأم روحي"،"مليت من الغربة"،"وحياتي عندك"وغيرها العديد من الاغاني كما وكانت له مشاركة في اوبريت "الحلم العربي".ومن اهم تعاملاته كذلك اعماله مع الفنان جورج وسوف الذي حظي بنجومية شديدة الوهج وقدما سويا اعمالا كثيرة تعتبر من علامات الوسوف العالقة بأذهان المستمعين في العالم العربي :"كلام الناس"،"ليل العاشقين"،"ارضى بالنصيب" وغيرها.ولربما هي من اكثرالاعمال التي بمقدورها ان تعيش وترسخ في الذاكرة الموسيقية "المينستريمية" لما للوسوف من تأثير على جيل كامل من خلال صوته وشخصيته المثيرة للجدل التي خرجت عن النمط التقليدي للفنان العربي وكسرت الصورة المثالية للمطرب.
مستجدات التسعينيات
شهدت فترة التسعينيات انتقالا لكثير من المطربين والمطربات من كلاسيكية الثمانينات الى حداثة التسعينيات فبعد ان كان الالبوم الغنائي يحتوي على اغنيتين او ثلاث،تزايد عدد اغاني الالبوم الى ستة او ثمانية، ممهدا لفترة الاستهلاك الغنائي اللاحقة الذي فرضته شركات الانتاج فيما بعد. على رأس هؤلاء الفنانين الفنانة وردة،ميادة الحناوي،هاني شاكر،كما ولمعت اصوات نسائية من المغرب العربي من اهمهم المطربتان سميرة سعيد ولطيفة التونسية اللتان شكلتا اهم ثنائي نسائي متنافس على قمة سباقات الاغنيات لفترة التسعينيات وكانتا النموذج للمطربات المخضرمات واللاتي انتقلن من غناء "المطولات" الى تقديم الاغاني القصيرة وعاشتا فترتهما الذهبية وانتجتا العديد من الاعمال الشعبية الناجحة،كما ولمع مطربون لبنانيون وسوريون كان جل انتاجهم الغنائي مصريا عاكسا مغناطيسية الجذب الفني المصري،اذكر على سبيل الحصر لا القصر:جورج وسوف،راغب علامة،وليد توفيق،نوال الزغبي.والجدير بالذكر، ان في المقابل تواجد من حاول تقديم الاغنية اللبنانية الشعبية من اهمهم المطربة نجوى كرم التي شكلت بفنها جبهة سعت لايجاد اعمال غنائية متمسكة بالهوية اللبنانية لخلق توازن ما بين الانتاج الغنائي المصري واللبناني في تلك الفترة، بمعاونة الشاعر والملحن عماد شمس الدين وبرعت باجادتها للموال اللبناني الشعبي وايضا برز الفنان وائل كفوري كصوتيحاول ترك بصمة لبنانية على الساحة الغنائية العربية،تزامن ذلك مع تعافي الساحة الفنية اللبنانية من اثار مخلفات الحرب على الانتاج الفني وكانت فترة تمهيدية اسست لعودة بيروت مركزا لصناعة الفن والنجوم.
القصائد المغناة
لم يكن احد ليراهن على شعبية الغناء باللغة العربية الفصحى وانتشاره كغيره من الغناء الرائج،الا ان وجود مشروعين لغناء القصيدة افلح بوضع القصيدة على لائحة التيار المركزي للاغنيات ونجحا بالارتقاء باذواق المستمعين،جمعهما في اغلب الاحيان نفس الملهم الشاعر نزار قباني،أعني تجربة الفنان كاظم الساهر والفنانة ماجدة الرومي.تميز كلاهما في اداء القصائد العاطفية والوطنية وبتنفيذها بطريقة قريبة من المستمعين على اختلاف ثقافاتهم وشرائحهم الاجتماعية التي ينتمون اليها،فكان سهلا ممتنعا كشعر نزار،من اهم اعمال ماجدة الرومي:"ست الدنيا"،"مع جريدة"،"كلمات" ومن اهم اعمال كاظم الساهر:"اني خيرتك"،مدرسة الحب"،"زيدني عشقا"،واجتمع القطبان عام 1998 في اغنية"طوق الياسمين" كاظم تلحينا وماجدة غناءً.من بعدهما يمكننا القول ان اندثرت تجربة غناء القصائد وتمكنها من التيار المركزي حتى اشعار اخر،خاصة في ظروف آنية ثقافية نعيشها تهدد سلامة لغتنا العربية،لما تواجهه من اخطار تتربص لها في كل شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام والقنوات التليفزيونية التي باتت بمعظمها ترفيهية تجارية تخاطب العائلات العربية بعقلية السوق.بنظرة الى الوراء -ومما لا شك فيه- يلحظ المراقب اسهاما للقصائد المغناة في فترة التسعينيات في اعلاء شأن اللغة العربية الفصحى وجذب المستمع العربي الى تذوق ومتابعة الشعر عموما بخلاف اوضاع لاحقة بات فيها الشعر المغنى مقتصرا على الاغاني النخبوية او اغاني "المثقفين" اذا صح القول!
الفيديو كليب
بعد اختفاء السينما الغنائية لاكثر من عقدين،كان تصوير اغلب الاغاني على شكل تواجد المطرب او المطربة في استوديو دون حركة تقريبا الا في حالات قليلة وكان الاستعراض الغنائي مقتصرا بشكل او باخر على التلفزيون على شكل الفوازير أساسا في الثمانينيات ،الى ان عاد ظهور الاغنية مصوّرةً عبر الفيديو كليب الذي لم يحل أيضا محل الافلام الغنائية،حيث لم يحتو على مساحات درامية تجعله ثريا بما فيه الكفاية لكنه جاء كحل وسط يقدم قصة مصورة متواضعة أحيانا،سطحية في احيان كثيرة مع تحرك شديد وعدم ثبات للكاميرا،دون وجود علاقة بين المحتوى المغنّى والصورة،وفي احيان اخرى نجده يحتوي على حبكة درامية وجودة اخراجية أذكر من هذه الاعمال الجيدة:("سكة العاشقين"لمصطفى قمر"(1994)،"مع جريدة"(1995) لماجدة الرومي).
لمع مخرجون في عالم الفيديو كليب في التسعينيات كجميل جميل المغازي،شريف صبري ميرنا خياط، طوني قهوجي شكلوا الوجه المرئي للاغاني ومن اهمهم المخرج طارق العريان ونتذكر تعاملاته مع الفنان عمرو دياب الذي سطع نجمه في التسعينيات ورسخ لمكانة ونجومية كبيرة خارج اي مقارنة ونجح مع العريان بتقديم صورة نظيفة ذات جودة عالية تطمح الى تحقيق هاجسه بالعالمية ("راجعين"1995،"نور العين"1997،"عودوني"1998)،كما وقد ساهم انطلاق الفضائيات العربية بنجاح الاغنيات المصورة وشرائها وترويجها، وشكل افتتاح الفضائيات نقطة بداية لاندماج اعلامي ثقافي عربي ناتج عن المنظومة العالمية انذاك واثره ما زال قائما حتى الان.
اختلاف المعادلة وتساؤلات مستقبلية
بالوصول الى نهاية التسعينيات وبداية الالفية الجديدة ظهر عدد من الظواهر السلبية المتعلقة بالاغنية العربية "المينستريمية" واختلفت مقومات الاداء والنجاح والرواج للاغنية، فلم تعد معايير الصوت كالمتعاهد عليها وغلب على العديد من الاغنيات المصورة عري واسفاف لم يكن معهودا في السابق على المشاهد العربي ونشأت عقلية انتاج جديدة تعتمد على الكليب المثير عوضا عن البوم غنائي ركيزته الاساسية جودة الاغنية والاداء، لذا بالمجمل يمكننا القول بأن افرزت حقبة التسعينيات فنا كان امتدادا "سليما" للفترات التي سبقتها وتم الحفاظ بشكل او باخر على شكل الاغنية العربية في اطارها الكبير الذي تغير بعد ذلك بتأثير العولمة والانفتاح الثقافي والاعلامي بما للأمر من ايجابيات وسلبيات،فقد فتح المجال في عصر اليوتيوب والفيسبوك الى ادراج التجارب الشخصية وظهور فرق عدة في مصر والاردن والمغرب العربي غيرت خطاب الاغنية العربية المتعاهد عليه.ويبقى السؤال ان كان كل هذا التغيير سيظل محصورا في هامش "الموسيقى البديلة" الرائجة عند النخبة؟ام سيفرض نفسه على الشارع العربي الشاب الثائر الباحث عن التغيير والتجديد والحرية؟وهل سيكتب لموسيقى حقبة التسعينيات البقاء في الوجدان الجماعي كأغاني حقبات سابقة؟
توثيق متواضع
في مقالي السابق بعنوان "التسعينيات...زمن الفن الجميل" ومقالي الذي بين ايديكم الان حاولت تقديم توثيق متواضع لفترة ليست ببعيدة،يعطيان لمحة سريعة لمن فاته التأمل واستيفاء العبر،وربما لهو حنين جارف لفترات الطفولة والمراهقة انتقلنا فيها كأفراد وكشعوب من مرحلة الى اخرى نتاجا لمعادلات اقليمية وعالمية استجدت،لها ما لها علينا من التأثير على هويتنا الثقافية..فكما تساءلت المخرجة اللبنانية نادين لبكي في فيلمها الاخير اتساءل ايضا في مضماري هذا: "وهلأ لوين؟"
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net