الشيخ إبارهيم صرصور في مقاله:
مقال من وحي ذكرى وفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر
الثورة تحولت بعد مدة قصيرة إلى أتون تأكل أصحابها وتصفي أبناءها
لم أستغرب أن يكون لناصر معجبون في أرجاء الوطن العربي وربما في غيره
تأخذ هذه الهجمة بُعدها الخطير في ظل التجارب الديمقراطية الوليدة في أكثر من بلد عربي خصوصا في مصر
الشعب المصري الذي أحب المخلصين من أبنائه أصبح بركانا يغلي من داخله سرعان ما تفجرت حممه فحولت ظلام مصر إلى ضياء
لفت انتباهي ما امتلأت به صفحات مواقع الانترنت والفيسبوك والصحافة من مقالات بمناسبة الذكرى السنوية لوفاة الرئيس الراحل جمال عبدالناصر ... لم أستغرب أن يكون لناصر معجبون في أرجاء الوطن العربي وربما في غيره ، وهذا من حقهم طبعا .... فالرجل كان في مرحلة ما ( القائد الملهم !!! ) الذي لا يشق له غبار ... لكن الذي استغربته فيما نشرته وسائل الإعلام قضيتين، الأولى، غياب النظرة النقدية والموضوعية لتجربة عبدالناصر البشرية، بهدف الاستفادة منها لبناء الحاضر والمستقبل، حتى بلغ بالبعض إلى درجة رفع التجربة إلى مستوى التجارب المعصومة التي لا يرقى إليها شك أو يُقْبَلُ فيها نقد، مع أن تجربة الأنبياء عليهم الصلاة الإنسانية في غير ما بلغوا عن ربهم من وحي صادق، ظلت تجربتهم هذه فيما دون ذلك عرضة للتقييم والأخذ والرد عِبْرَةً للأجيال من بعدهم. والثانية، أنهم زادوا على خطيئتهم السابقة خطيئة أخرى، إذ صبوا جامَّ غضبهم على حركة ( الإخوان المسلمون ) ووصفوها بما أثبتت الدراسات الحيادية بطلانة وكذبة ... فرضوا أن يكونوا في خندق واحد مع المتربصين بحركة الأمة في ظل الربيع العربي، والساعين إلى إحباطها وإفشالها والعودة بشعوبنا العربية إلى زمن الاستبداد والدكتاتورية التي جسد ناصر نموذجا سيئاً من نماذجها ... تأخذ هذه الهجمة بُعدها الخطير في ظل التجارب الديمقراطية الوليدة في أكثر من بلد عربي خصوصا في مصر، ووصول الإخوان المسلمون إلى سدة الحكم عبر صناديق أول انتخابات حقيقية تتم في مصر منذ خمسة آلاف عام.
صروح الحرية والانعتاق
سبح بي الخيال وأنا أقرأ هذا الكلام، وعادت بي الذاكرة وأنا أرمق الشعب المصري يصنع تاريخه من جديد، إلى تلك اللحظات التي عاشها ذات الشعب تغلي صدور أبنائه وتفور أفئدتهم حقدا على الملك ( فاروق ) الذي أخضع بلاده للاستعمار الأجنبي، وقاد أمته إلى هزائم متلاحقة، وسخر إمكانات دولته لإشباع غرائزه البهيمية، وداس الدستور بحذائه الثقيل، وَحَوَّلَ الجيش إلى حرس يحميه من شعبه ... تخيلت هذا الشعب وهو يقف على شاطئ الإسكندرية يثأر لكرامته بطريقته الخاصة من ذلك الملك الذي طغى وبغى وتجبر وتكبر، حتى سَوَّلَتْ له نفسه ارتكاب أفظع الجرائم ضد مصر وقواها الحية، وعلى رأسها اغتيال الإمام ( حسن البنا ) رحمه الله، مرشد أعظم جماعة إسلامية إصلاحية عرفها تاريخ أمتنا المعاصر، جماعة ( الإخوان المسلمون ) ... ظن ( فاروق )، أو هكذا سَوَّلَ له أسياده، أنه بهذه بهده الجريمة قد تخلص من اكبر أعدائه، وأزال من طريق استمرار مُلْكِه في مصر أجرأ خصومه، وما عرف أن الله كان له بالمرصاد، وأن الشعب المصري الذي أحب المخلصين من أبنائه، أصبح بركانا يغلي من داخله، سرعان ما تفجرت حممه فحولت ظلام مصر إلى ضياء، وعروش الظلم إلى هباء، لتقيم على أنقاضها صروح الحرية والانعتاق.
الأمل الذي خاب
هذا ما كان يتمناه الشعب المصري من ثورة 23 تموز/يوليو 1952، وقد رأوا ما فعل الله بفاروق ومُلكه... علق الشعب المصري والأمة العربية من ورائه آمالا عريضة على الثورة فدعموها بالمال والرجال، وكان ( للإخوان المسلمين ) الدور الكبير في نجاحها وحمايتها في أكثر مراحلها خطورة، وذلك بإعتراف الثورة نفسها ... لم يطمح ( الإخوان المسلمون ) يوما في السيطرة على الثورة أو فرض الوصاية عليها، بل كانوا الحريصين على أن تحقق أهدافها في إطلاق الحريات، وإقامة مجتمع العدل والمساواة والديمقراطية المستنيرة، إلا أن الثورة تحولت بعد مدة قصيرة إلى أتون تأكل أصحابها وتصفي أبناءها، وتحكم بالحديد والنار، وابتعدت ما استطاعت إلى ذلك سبيلا عن أهدافها، فذاق الشعب المصري في ظل حكمها ألوان العذاب، حيث انتهى أمرها إلى هزائم مريرة، وذل تجرعه الشعب المصري فوق ما تجرع من ذل سياسات الدولة الداخلية... الدكتاتورية والاستبداد والفساد... إنها ذات الأمراض التي انتفض ضدها الشعب المصري، عادت هذه المرة على دبابات ( الضباط الأحرار )، ولكن إلى حين، وقد قيل ( دوام الحال من المحال ).
مرحلة جديدة قديمة
سقطت منظومة ( جمال عبدالناصر ) مع وفاته، كما هو حال الدكتاتورية دائما، ليتسلم الحكم من بعده ( أنور السادات ) ... لم يتعلم السادات من سلفه، فلم يجر تغييرات جذرية في نظام الحكم يؤسس لديمقراطية حقيقية، ولتداول سلمي للسلطة في ظل تعددية سياسية وإطلاق للحريات العامة. مرة أخرى يفقد ( السادات ) أعصابه في ظل ضغوط جماهيرية طالبت بحقها سلميا، فصب جام غضبه على قوى الشعب الحية وعلى رأسها ( الإخوان المسلمون ) لمجرد أنه رأى فيهم طليعة التحرك المعارض لسياساته الداخلية والخارجية، جردهم من أبسط الحقوق، وزج بهم في السجون، وتجرأ على علمائهم بما لم يسبقه إليه أحد، فسرعان ما انتهى أمره إلى ما انتهى إليه سلفه ... دكتاتورية واستبداد وفساد، ثم اغتيال على يد مجموعة من شباب مصر الغيارى وهو في عرينه وبين جنده وتحت سمع وبصر خلصائه وصفوته ، ( فما بكت عليهم السماء والأرض ) .
حجج أقبح من ذنب
يدخل عهد ( حسني مبارك ) منذ العام 1980 ، وتخضع مصر للأحكام العرفية من ذلك التاريخ وحتى سقوط مبارك بعد انتصار ( ثورة 25 كانون ثاني يناير ) من العام 2011 ... لم يتعلم هو أيضا الدرس من أسلافه، فعاد ليرتكب ذات الأخطاء والخطايا، فسام الشعب المصري أصناف العذاب، وكما كان لفاروق وعبدالناصر والسادات زبانيتهم الذي أذلوا الشعب وأهانوا كرامته وامتصوا دماءه، كان ( لمبارك ) زبانيته أيضا ممن افترسوا الشعب المصري، وحولوه أو هكذا ظنوا بغبائهم، إلى مجموعة من العبيد الخانعين، وما عرفوا أن الشعب وإن صبر حينا، فلن يطول صبره ، وقد قيل ( إنما للصبر حدود ) . مرة أخرى تقع القوى الحية وعلى رأسها ( الإخوان المسلمون ) ، فريسة لنظام مبارك كما كان حالها مع من سبقه، ومرة أخرى ينتهى أمره إلى ما انتهى إليه أسلافه ... دكتاتورية واستبداد وفساد، ثم ثورة سلمية أشعل فتيلها شباب مصر، سرعان ما تحولت إلى ثورة شعب بأكمله، أزاحت مبارك ونظامه، وتوشك إن شاء الله تحقق للشعب المصري النقلة النوعية التي طال انتظاره لها، وتحمل التضحيات الكثيرة والكبيرة في سبيلها ... لم تعد حجج النظام في مصر وفي غيرها من الدول العربية تنطلي على أحد، خصوصا في زمن الانفجار المعلوماتي الذي نعيشه، والفضاء الإعلامي المفتوح، وانكسار حاجز الخوف من شباب متعطش للتغيير، وقادر على إدارة مشروعه ألثوري بكل الكفاءة والذكاء والقدرة والحنكة والمهنية ... لم تعد التهم التي تعدها نظم الاستبداد سلفا والتي لم تتغير منذ ثورة 1952 وحتى الآن، لتروج في أوساط الغالبية الساحقة من شباب الأمة، بعد أن انكشفت حقيقتها وبانت سوأتها، ولم يعد بالإمكان قبولها، وهذا بالفعل ما أثبتته ثورة الشباب في مصر.
الحل المشرف
آن الأوان للنظام العربي الرسمي، بعدما رأينا التاريخ تكتبه أجيال الشباب في تونس ومصر وليبيا واليمن وفي سوريا، أن يتقاعد، وأن يخرج من الساحة بشيء من كرامته، وأن يتعلم الدرس مما يجري ... إن المراهنة على قوة العسكر والمخابرات وأجهزة الأمن مهما بلغت في وحشيتها وقسوتها وعدائها للشعب وولائها للنظام من جهة، وعلى الحليف الأمريكي أو غيره من جهة أخرى في حماية هذه الأنظمة، لن يجدي حينما يتحرك الشعب بكل قطاعاته كما حصل في مصر وتونس ... إنها حتمية دينية وتاريخية : دولة الظلم ساعة، ودولة العدل إلى قيام الساعة ... والعاقل من اتعظ بغيره !!!... أما الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فقد مضى إلى الله سبحانه ... سيظل المؤرخون يكتبون عن فترة حكمه، وسيظل الناس فيه بين منتقد ومادح .... أما أنا فمع منطق القرآن الكريم في تعامله مع الآخر ... فليس الإنسان شر كله، كما انه ليس خيرا كله ... حقبة عبدالناصر حقبة ارتكب فيها نظامه الجرائم ضد الإنسانية بشكل لم يكن حتى في زمن الملكية ... فيها الدكتاتورية والاستبداد في أفظع صورها وفي جميع مجالات الحياة .. فيها انتهاك فاضح للحريات الشخصية والسياسية غير مسبوقة ... فيها انتشر التعذيب على أوسع نطاق، وعشعش الفساد في كل أركان الدولة حتى خالط العظم واللحم ... فيها الهزائم العسكرية وعار الأبد ... فيها وفيها ... لكن فيها أيضا دعم حركات التحرر العربية .. وفيها مشروع الإصلاح الزراعي ... فيها نهاية حكم الإقطاع ... ويبقى السؤال : أي وجهي الصورة سيطغى في النهاية ؟ نترك ذلك للتاريخ ...... عموما، الرجل بين يدي الله وهو أعلم به الآن..
دماء الشعب
أما ( الإخوان المسلمون ) فلن يضرهم من يظلمهم .... فقد عودونا أن ردهم على من ينتقدهم يكون دائما في الميدان عملا وعطاء وتضحية ... خصومهم مضوا إلى غير رجعة، أما هم ففي قمة السلطة ... أولئك الذين حكموا السنوات الطوال، وامتصوا دماء الشعب ألقت بهم الجماهير إلى حيث تعلمون .. أما ( الإخوان ) فقد وصلوا قمة الهرم السلطوي لا بالانقلاب ولا بالإرهاب ولكن عبر صندوق الاقتراع .. فأستغرب ممن لا يحتمل نتائج الانتخابات الديمقراطية ثم يدعي انه متنور حتى النخاع ....... عجبي..
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net