محمد بيطار في مقاله:
مقالتي هذه ليست من باب التنظير بل من باب طرح فكر معين مختلف
أرى أن هنالك حاجة لتغيير نهجٍ مسيء الى المجتمع بإفراغ مصطلحات هامة من معانيها السامية
تجربتي المهنية تمتد على أكثر من عشرين عامًا معظمهما بين كبرى الشركات التكنولوجية بالبلاد وخارجها وفي أعمال إجتماعية مختلفة
ظاهرة فوضى التكريمات لها عدة مصادر أهمها السهولة بإعداد "تكريم" فالتكنولوجيا المتوفرة بمتناول اليد تجعل الأمر سهل وبسيط وغير مكلف
بنظري هنالك حاجة لإستعمال المصطلحات بشكل يتناسب مع الطقوس المستعملة بها فهنالك تباين وفرق كبير بين كلمة "شكر وتقدير" وكلمة "تكريم"
قبل أيام شاركت في أمسية حول موضوع النجاح، هدفت الى إعطاء بعض شبابنا نقطة انطلاق أفضل بمسار حياتهم. بنهاية الأمسية، وَزَّع القائمون على الأمسية شهادات تكريم ب"سخاء لافت" على الكثير من الحضور، وصلت نسبتهم نحو نصف الحاضرين، تساءلت عن سبب هذا "السخاء" والمحرك الدافع وراء هذا التكريم السخي.
بدأت الأفكار تعصف مخيلتي وبدأت أسترجع مواقف وذكريات من ماض قريب حول أمسيات تكريم في المجتمع العربي بالبلاد... ووجدت أن هنالك حالات يُكرم فيها أشخاص مختلفين تحت مسميات مختلفة وبأشكال مختلفة ومن مصادر مختلفة وبكميات كبيرة وغالبًا ما تكون تكريمات صورية بعيدة عن المعايير التكريمية المتبعة عالميًأ... وشعرت أن هنالك حالة "فوضى تكريمات" تستحق معاودة النظر فيها.
التكريم حسب المعايير
تداعي أفكاري استوقفني عند موقف مع صديق لي مدير مؤسسة، عرض عليّ "أن أُكَرَّم" ضمن حفل تقيمه المؤسسة التي يديرها، مبررًا ذلك بأن التكريم سيخدمني وسيزيد من شهرتي، وكأن التركيم آلية للشهرة أو هدف يسعى له المرء، وليس نتيجة عمل وعطاء سنين وتميز. رفضت أن أُكرَّم ايمانًا مني أن التكريم له معايير وأعتقد أنني لم استوفها بعد، وعليه لا استحق التكريم بهذه المرحلة من حياتي... ما السبب وراء فوضى التكريمات؟ هل هذه الظاهرة محلية عربية أم أنها أصبحت ظاهرة عالمية؟
التَمَيُّز "هي حالة يكون فيها المرء صاحب ميزة خاصة ينفرد بها عن غيره ضمن مجموعة" وإذا كان العديد (كم بالحال الجميع!) يمتلكون نفس الميزة فتعتبر الميزة مشتركة وليست تَمَيُّزًا، من هنا، حين نقول "فلان متميزًا" نتوقع أن يكون صاحب ميزة معينة بشكل منفرد دون غيره. التكريم حسب المعايير المتبعة عالميًا هو يقدم لأشخاص متميزين قاموا بأعمال تستحق التكريم وعلى مسار حياة طويل، قد يمتد على عقود من الزمان. مثلا يُكرم مرب بعد خدمة أربعين عاما من العطاء ولا يُكرم بعد تدريسه عامين حتى وإن كان فذًا. يُكَرَّمُ عالم قدم أختراعا كبيرا للبشرية ولا يُكَرَّم من كتب بضع قصائد أولها قبل شهور...
إزدحام الشهرة
ظاهرة فوضى التكريمات لها عدة مصادر، أهمها السهولة بإعداد "تكريم" فالتكنولوجيا المتوفرة بمتناول اليد تجعل الأمر سهلا وبسيطا وغير مكلف. هذا بالإضافة الى "إزدحام الشهرة"، فعالم الانترنت والشبكات الاجتماعية جعلتنا نظهر أمام الناس بشكل مغاير، وبصور مختلفة، فمعظمنا عنده حساب على الفيسبوك، ومعظمنا يرفع صورًا له ويتباهى بما عنده من مصادر فخر. رغم ذلك فهذا لا يكفينا بل نريد المزيد ونريد أن نحصل على شيء خاص "يميزنا" عن غيرنا... "شهادة تكريم" من أي مصدر نعتز بها ونرفع صورنا حاملينها ونفتخر بها بين أصدقائنا وهذا يعطنا قيمة "جمالية مضافة " في زحمة الشهرة... حالة الإزدحام على الألقاب والشهرة تجعل المرء يقبل بأي تكريم وبأي لقب ليكون "متميزا" لتسليط الضوء على ظاهرة فوضى التكريمات، ومن باب الذكر لا الحصر، أقيم في مدينة الناصرة لوحدها الاسبوع الأخير أكثر من أربع أمسيات تكريمية، حيث كُرِّمَ العشرات، أتساءل هل هنالك أعمالا بحجم التكريمات؟!
تجربتي المهنية تمتد على أكثر من عشرين عامًا، معظمهما بين كبرى الشركات التكنولوجية بالبلاد وخارجها وفي أعمال إجتماعية مختلفة، لا أذكر تكريمات بهذا الشكل مع العلم أنه كانت هنالك أعمالا ضخمةً ورهيبةً، وكان المشاركون والمتكلمون من أصحاب التجارب العالمية، رغم هذا فلا أذكر تكريما واحدا لمتحدث أو لصاحب شركة.
تعزيز ثقافة الشكر
بنظري هنالك حاجة لإستعمال المصطلحات بشكل يتناسب مع الطقوس المستعملة بها، فهنالك تباين وفرق كبير بين كلمة "شكر وتقدير" وكلمة "تكريم". لا ضير بقول كلمة شكر لمن يستحق الشكر، بل على العكس هنالك حاجة لتعزيز ثقافة الشكر والعرفان، مع مراعاة استعمال صحيح دون خلط المصطلحات ببعضها.
أعزائي، أنا ممن يمقتون التنظير واستعمال مصطلحات "أعمل أو لا تعمل، وقل ولا تقل أو ما أشبه..."، ولا أرى أني صاحب حق بالتنظير ولا تحت أية تسمية، لكنني رأيت أن هنالك حاجة لأقول قولاً، مقالتي هذه ليست من باب التنظير بل من باب طرح فكر معين مختلف. أرى أن هنالك حاجة لتغيير نهجٍ مسيء الى المجتمع بإفراغ مصطلحات هامة من معانيها السامية.
دمتم بخير،
محمد بيطار - كاتب ومؤلف سلسلة نجاحات عزائم عربية
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net