أشرع نافذتي على مصراعيها لأرتشف قهوتي الصباحية وأنا أطل على تلال المدينة التي استيقظت من منامها، بتساقط حبات المطر وضجيج البشر، وقوس قزح في سمائها بألوانه المتداخلة ينتشر. أغمض عيوني أمام سحر الطبيعة وأتَعَمق في أفكاري المُحَنَطهَ في تَوابيت الزمن، تنتظر من يكتشفها ويفك اسرار غموضها، ويأخذ بيدها الى النور خارج دهاليز الظلام.
ما زالت تلك الصورة لفتاة شبه عارية تخطو بخطوات متثاقلة على جسر خشبي الى الأفق الواسع وعالم الكواكب المُظلم بلا خوف أو وجل، هروبا من الصمت القاتل ومن مشاكسات مدعي الوفاء، خادشي الحياء، العابثين بكل زهرة جميلة يمزقوها الى أشلاء لتمسي بلا قيمة أو رداء، منتهكة الأوصال والأرجاء.
إنها ضحية حاولت أن تفهم قانون الطبيعة، وتخطوا نحو الغد المشرق، في رحلة مجهولة بلا مركب أو قبطان، أو رفيق يمنحها الدفء والحنان ، يسلي وحدتها وينشأ لها أرضا وكيان. أقف مندهشا، مستسلما لرتل من جحافل الأفكار التي تغزو عقلي، وتتأرجح به ذات اليمين واليسار، وأنا أراها تنظر نحوي وكأنها تتفحص وجودي وتتمعن في ملامحي، وتبحث عن شرحا لما وصل اليه حالها وقد تملكها الخوف والخجل، وسألتني باستغراب: "هل أنت شاعر الأحزان، العاشق الولهان تكتب شعرا، تحب وتكره، وتبني قصورا من ورقٍ وألوان؟"، ابتسمت وأجبت بإيماء واستحياء، فمع جمالها وبريق عينيها اللامع مع انعكاس الشمس على قطرات الدمع المناسبة ببطء من عينيها، وما تملك من جاذبية وإصرار، تفرض الصمت على الكلام، ويثور الشجن، ويدور بالخلد ألف سؤال، مما يجعلني أحيا خارج الزمن والذاكرة مُغيباً عن الواقع.
أترى هو الحب من النظرة الأولى قد تسلل لإرجائي؟ فقد ملكتني بسحرها الغامض، وبموسيقى صوتها الحديث على مسامعي، فأطربني ودفع مشاعري للعزف المنفرد بعفوية، وكان القدر قال كلمته، وبت أراها تشبهني وتطابق حالي وتملك نفسي. جلست قريبا مني وقد أصابها الذهول من صمتي، ونظرت الي وكأنها تقرأ أفكاري وتعيش خيالي، وقالت: "متى تشفى من مرض الصمت العميق وتعيش النسيان؟ ومتى تكون بأحلامك قريبا من الواقع وتجدد مشروع الحب دون أن يتربص بك الحزن في كل مكان؟"
لم تلاحظ للوهلة بأنها كانت سبب حالتي تلك، وبأن أفكاري محصورة بها، وقد اخترقت جسدي شحنات من الحب الملتهبة مع كل كلمة تنطقها ومع كل دمعة تتراقص على جفنيها، لأحلق خارج الزمان، وأسبح في عالم فلكي جديد أحاول اكتشاف كل تفاصيله المثيرة واختبار مكوناته العجيبة، التي لا يمكن أن أقف بعيدا عنها، أو أن أتركها دون أن أحاورها وأتمعن بجمالها، يجب أن أكسر قانون الجاذبية وقواعد الصمت، وشعرت برغبة في الكلام، فلم أتوقع وجود مثل هذا الحب المشتعل يعتمر في أحشائي.
بدأت أقص عليها قصتي مع الأحزان، وسبب انتكاسات قلبي وجنوني الأخير، وأردت أن أعترف لها دون خجل بأنها حبيبتي التي انتظرتها طويلا على ممرات الحلم ومسالك الضياع، والتي تقاسمت معها أنفاسي ودمي وكان ذكرها يمنحني حبا أسرقه من الموت واليأس، وكيف تابعت حدسي المفرط الذي كان دوما يبشرني باقتراب بزوغ فجرك وبأنك واقع على الأرض لا سراب وسط صحراء التمني.
الجزء الأول انتهى.
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع علي العنوان: alarab@alarab.net