سليم سلامة في مقاله:
المشكلة محصورة في "تكلّس القيادة" فقط من غير انتباه إلى إن تكلّس القيادات هذا لم يكن لينشأ لولا التكلس الذي استشرى في هذه الأحزاب نفسها
ما يثير الاشمئزاز والرثاء معا أن هذه الأحزاب التي لم تستطع التوحد في قائمة انتخابية واحدة تخوض انتخابات الكنيست باسم "الجماهير العربية" (لموانع حقيقية يعرفها الجميع!)
من المحزن أن ينقضّ المنقضون على "المُقاطعين" وهم – في أغلبيتهم الساحقة كما هو واضح - مصوتون سابقون لهذه الأحزاب العربية بالاتهام والتجريح دون أن يلتفتوا ولو بكلمة واحدة إلى ما يزيد عن 80 ألف عربيّ صوّتوا للأحزاب الصهيونية
تنويه: كان من المفترض أن تكون هذه المقالة معالجةً لانتخابات للكنيست الـ 19 ومحاولةً لاستقراء نتائجها وما كشفت عنه من سيرورات وتفاعلات تراكمت عبر سنوات طويلة بين المواطنين العرب في هذا الدولة على وجه التخصيص. لكن ما حصل فور صدور النتائج من محاولات طمس وتعمية تضليلية استدعى التوقف عندها، توضيحا للحقيقة والتزاما بها، لأنّها تبقى المرساة الوحيدة والضمانة الأكيدة لحصول التغيير المنشود.[ لم تجد الأحزاب الفاعلة في الوسط العربية، بعد، متسعا من الوقت وما يكفي من الطاقات لإجراء تلخيصات ودراسات جديّة، ولو أوليّة، تقيّم من خلالها النتائج التي تمخضت عنها الانتخابات للكنيست الـ 19 لتضع أصابعها على مواطن الضعف في عملها وأدائها وما تراكم عليها من صدأ يُبتَغَى أن يدفعها، بروح من الثقة والمسؤولية، إلى مراجعة نفسها بنفسها، قبل اللجوء إلى تعليق نواقصها وقصوراتها على كل ما ومَن تتوهّمه "ضلعا قاصرا" أو "خاصرة رخوة"!
الديماغوغية الرخيصة
ومما يثير الاشمئزاز والرثاء، معا، أن هذه الأحزاب التي لم تستطع التوحد في قائمة انتخابية واحدة تخوض انتخابات الكنيست باسم "الجماهير العربية" (لموانع حقيقية يعرفها الجميع!)، لم تجد مانعا أو حرجا في التوحد، تلقائيا وفوريا، في شن هجوم على مَن لم يصوّت و/ أو قاطع هذه الانتخابات ولم يشارك فيها. ولم يقتصر الأمر على "لوم من باب العتب"، بل تعداه إلى أبعد من ذلك بكثير وأخطر، من حيث الإمعان في عدم استخلاص الدروس الصحيحة المستحقة والغلوّ في امتشاق الديماغوغية الرخيصة "عصًا سحرية" في مخاطبة "الجماهير"، أي: تحميل هؤلاء الذين لم يصوّتوا و/ أو قاطعوا المسؤولية المباشرة عن "عودة نتنياهو إلى الحُكم"، لا أقلّ!!! وهو ما تفوح منه رائحة تخوينية مغثية ليس من حق أحدٍ أن يطلقها، خاصة وأن هؤلاء "المقاطعين" لا يشكلون "وحدة واحدة"، إذ لا شيء يوحّدهم سوى فِعلٍ واحد تختلف أسبابه، دوافعه، منطلقاته ومرتكزاته. والحقيقة، إن أياً من الذين شنوا هجوم التجريح والتخوين لا يستطيع الحديث عن "مقاطعة منظمة"، إذا ما استثنينا موقف "الحركة الإسلامية الشمالية" وحركة "أبناء البلد" غير الجديدين على الإطلاق في هذا السياق، بل هي آراء فردية تقول بـ"ضرورة المقاطعة" أو بـ "عدم الجدوى من التصويت"، بتعليلات وتسويغات مختلفة تلتقي وتتقاطع في بعض المحاور والنقاط وتختلف في أخرى.
اكتشاف السبب
ومن الجليّ تماما، بعيدا عن الشكّ، إن هذه "الحرب" على "المقاطِعين" إنما تُشَنّ، الآن، للتغطية على قصورات ونواقص ذاتية تخص الأحزاب نفسها وقياداتها وسعيا إلى التهرب من مواجهة الحقيقة وما تستوجبه الأرقام (النتائج) من استخلاصات، حزبية وشخصية. وقد كان من "الطبيعي"، ومتوقعا تماما، أن يلجأ "السياسيون" إلى هذا السلاح الديماغوغي ("أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم"!!!) المكشوف، وهم الذين أوصلوا أحزابهم وجماهيرهم إلى هذا المنحدر، بدَيدنهم هذا. كما كان من الطبيعي، وأكثر توقعا مما قبله، أن ينتظم هواة السياسة و"عشاق" هؤلاء السياسيين في جوقة تردد تلك الافتراءات الديماغوغية، تبرئة ً للذمم وانتشاءً بـ"اكتشاف السبب"!
النتائج الرسمية
أما الذي يبدو غير طبيعي، وغير مقبول، فهو أن يقع بعض المثقفين في شراك هذا الدجل الديماغوغي وينساق وراءه بغير تدقيق أو تمحيص، بينما كان يتوقع منهم تحري الحقائق إنْ هي التبست عليهم والتشبث بها قبل الشروع في الكتابة تجريحا واتهاما، بل تجريماً، ما ينمّ عن جهل (أو: تجاهل!) الحقائق الأساسية المتعلقة بالنتائج الرسمية الحقيقية الأخيرة وبأنماط التصويت لدى المواطنين العرب في انتخابات الكنيست على مر عشرات السنين. وأول هذه الحقائق وأبرزها هو ما أورده الصديق أيمن عودة، سكرتير الجبهة، في مقدمة دراسة قيمة أعدها ونشرها في أواخر العام 2009 تحت عنوان: " حول انتخابات الكنيست والمواطنين العرب - المشاركة، عدم التصويت والمقاطعة"، إذ يقول حرفيا:
الظاهرة بجدية بالغة
"في الانتخابات البرلمانية سنة 2003 صوّت 62% من المواطنين العرب بعد أن كادت تصل نسبة التصويت 80% في منتصف التسعينيات، ومن بعدها هبطت مرّة أخرى إلى 54% (2006) وهبطت مرّة إضافية إلى 52% في الانتخابات الأخيرة (2009). أي هبطت نسبة التصويت بـ26% خلال عشر سنين، وهي نسبة الهبوط الأحدّ في دالّة واضحة المعالم في هبوطها الدائم منذ قيام الدولة، حيث تجاوزت نسبة تصويت المواطنين العرب الـ90% في سنوات الخمسينيات"! ويضيف: "من غير الطبيعي أن لا تناقش الأحزاب السياسية هذه الظاهرة بجدية بالغة، خاصّة تلك التي تخوض انتخابات الكنيست، فالرسم البياني يشير بما لا يقبل الشكّ أن السنوات القادمة ستشهد هبوطًا إضافيًا، إلى ما دون الـ50% ممّا يمسّ شرعية الأحزاب المنتخبة ويؤثّر على وجهة المواطنين العرب وسلوكهم السياسي، إلا إذا تمّ معالجة الأمر سياسيًا وعلميًا والخوض في معركة على وعي الجماهير العربية".
نتائج استطلاع
ويقول أيمن: "وتبرز كلّ الاستطلاعات أن طرح مقاطعة الكنيست أيديولوجيًا سياسيًا (أبناء البلد) أو دينيًا (الحركة ألإسلامية الشمالية) لا يتجاوز الـ10% من بين "عدم المشاركين" في الانتخابات، أي لا يتجاوز الـ5% من المواطنين العرب". وقد أكد على هذه الوجهة، أيضا، ما طـُرح خلال "مؤتمر أنماط التصويت" الذي عقده "معهد تطوير الديمقراطية في المجتمع العربي" في جامعة حيفا في كانون الأول الأخير (قبل الانتخابات بنحو شهر) والذي عُرضت فيه نتائج استطلاع أشارت إلى إن" 50% من المواطنين العرب لن يصوتوا في الانتخابات القريبة". لكن الحقيقة الأبرز والمفاجئة (لكل مهاجِمي المقاطعين) هي أن نسبة التصويت الإجمالية بين المواطنين العرب في هذه الانتخابات (الأخيرة) سجلت ارتفاعا، لا انخفاضا، إذ بلغت نحو 56%، بينما بلغت في الانتخابات السابقة (2009) 53,4%، ولم يخرج أحد يومها لاتهام الممتنعين الذين لم يصوتوا أو لتحميلهم مسؤولية فوز نتنيناهو وليبرمان وسائر أحزاب اليمين بـ 49 عضوا، بدون "شاس" و"يهدوت هتوراة" و"كديما" و"العمل"!!
مقاطعة وهمية
فكيف، إذن، تستوي هذه الحقائق مع ما دبجه المنتقِدون والمهاجِمون من "تنظيرات"، شفاهةً وكتابة، وكيف يمكن تفسير هذا الخلط، المتعمد في أكثرهه، والساذج في أقلّه؟ كيف يفسر الصديق هشام نفاع تناقضاته التحليلية بين القول إن "دعواتهم (المقاطِعين) كانت عبارة عن مقولات تليغرافية سريعة على مواقع التواصل الاجتماعي... هذا كل شيء، لا حملة ولا تنظيم"! و... "حين أقول دعاة، لا يعني هذا أنهم شكلوا عنوانًا معروفًا ومعرّفًا للجمهور"! و.... "لا هم حزب ولا حملة ولا تنظيم وغير منظمين بالمرة ولا تجد لهم عنوانا"!، من جهة، وبين اتهامهم بـ"نصّبتم أنفسكم زعماء لحملة مقاطعة وهمية"؟ من خلال التعامل معهم ومخاطبتهم وكأنهم "مجموع" موحد، منسجم، متناسق، متماسك، تمهيدا لدمغهم بأنهم "مقاولو مقاطعة" لمساواتهم، سياسيا وأخلاقيا، بـ "مقاولي الأصوات"!!، من الجهة الأخرى؟
"تكلّس القيادة"
فإذا كانوا "لا حملة، لا تنظيم ....."، كيف يصح إذن وصفهم بـ "مقاولين"، بينما "المقاول" هو الذي يعمل، بالتخطيط والتنفيذ والمقابل، لحساب ولصالح طرف آخر؟؟ ثم تحذيرهم بأنه "في المرة القادمة، إذا أرادوا منا احترام حملتهم والتعامل بجدية معهم...."؟؟؟ هل هي حملة، أم هي آراء فردية، شخصية، يتوهم البعض لنفسه حقا (قد يكون إلهيا!) في نفيها، شطبها، إقصائها، وإن لم يستطع فدمغها وتشويهها؟؟ أما الصديق علاء حليحل بتنحي فلان وعلان وزميليهما وإلا فإنه سوف يقاطع وسيدعو إلى المقاطعة في الانتخابات القادمة. وعندها، هكذا يؤمن علاء كما يبدو، تصبح المقاطعة والدعوة إليها فعلا سياسيا شرعيا، بل مؤثرا، لأنه هو الذي مارَسَها وهو الذي دعا إليها. أما الآن، فهو متفق مع ما ذهب إليه هشام أعلاه، لأنه مقتنع بأن المشكلة محصورة في "تكلّس القيادة"، فقط، من غير انتباه إلى إن تكلّس القيادات هذا لم يكن لينشأ لولا التكلس الذي استشرى في هذه الأحزاب نفسها، على مستويات الفكر والتنظيم والأداء، على حد سواء {وهو ما لا يتسع المجال للخوض فيه هنا}.
الاستغاثية، إلى التصويت؟
وفي هذا، يواصل هذا الطرح ذلك "التهديد" الذي أصدره "التجمع" بمقاطعة الانتخابات ودعوة الآخرين أيضا إلى مقاطعتها إذا لم تلغ المحكمة العليا قرار لجنة الانتخابات المركزية شطب ترشيح حنين زعبي، على الرغم من أن قرار المحكمة كما صدر كان مضمونا مئة بالمئة، مسبقا. والمثير في الأمر أن جميع الأحزاب الأخرى تدثرت بالصمت حيال هذا الموقف "التجمعي" المغرق في الشخصنة الانتهازية. وهكذا تعاملت جميع الأحزاب بمنطق "التجمع" هذا بأن المقاطعة في مثل هذه الحالة ولهذا السبب ستكون شرعية ولا غبار عليها! فوصلت الرسالة إلى الناس. ثم، لماذا لم ينبس أي من هذه الأحزاب، أو مرددي حججها الاتهامية، ببنت شفة تعقيبا وردا على "نداء" جامعة الدول العربية إلى "فلسطينيي 48" ودعوتهم، الاستغاثية، إلى التصويت؟ لماذا حين دعا حسن نصر الله هؤلاء الفلسطينيين أنفسهم إلى الانخراط في "المقاومة" انبرت تلك الأحزاب وقياداتها للتصدي – المحقّ والصائب – لتلك الدعوة من خلال التأكيد على ضرورة "عدم التدخل في شؤوننا الداخلية"، بينما يصبح تدخل "الجامعة" (هل ثمة بين كوادر هذه الأحزاب من يحترمها ويثق بها؟؟) شرعيا ومبررا ويمر من دون أن يعترض عليه أحد؟؟ هل سيصبح التدخل الخارجي، أيا كان مصدره، في شؤوننا الداخلية مباحا مستقبلا؟
الوعي السياسي والاجتماعي
ومن المحزن أن ينقضّ المنقضون على "المُقاطعين"، وهم – في أغلبيتهم الساحقة، كما هو واضح - مصوتون سابقون لهذه الأحزاب العربية، بالاتهام والتجريح، دون أن يلتفتوا ولو بكلمة واحدة إلى ما يزيد عن 80 ألف عربيّ صوّتوا للأحزاب الصهيونية المختلفة، حتى بدا تقييم هؤلاء منسلخا عن الواقع ومجافيا لما يقصدون، بل متسامحا – في المحصلة – مع هذه النتيجة، وهي التي تأتت عن المشاركة في التصويت؟ وخلاصة القول، إن عدم المشاركة في التصويت و/ المقاطعة تجسد رأيا / موقفا يحتمل الصواب كما يحتمل الخطأ، مثله مثل المشاركة في التصويت، ليس من حق هذا أو ذاك شطب أي منهما أو تجريمه. وحري بنا جميعا أن نتذكر، دائما، إن الانتخابات تشكل "معركة" للتسييس ورفع منسوب الوعي السياسي والاجتماعي، من خلال تلاقح الأفكار والطروحات ومناقشة الاختلافات، الفكرية والسياسية، الاقتصادية والاجتماعية، لا طمسها وتغييبها، وهي (الانتخابات) ليست "حربا وجودية" يخوضها البعض بعقلية ونفسية "أكون أو لا أكون"! وتبقى الحاجة ماثلة ملحة إلى دراسة الموضوع واستكناه مركبّاته الحقيقية ودوافعه، دلالاته وأبعاده، إسقاطاته ونتائجه، من خلال جهد حواريّ جماعي يحاذر من تحويل الاختلاف إلى خلاف، بل يحترم الاختلاف ويشجّعه، سعيا إلى استكشاف الطريق والآليات التي توفر ضمانة لتخليص هذا المجتمع من آفاته وتجنيده للالتفاف حول مصالحه، عوضا عن استلال أسلحة الاتهام والتجريح والتخوين التي لا تفضي سوى إلى مزيد من تعميق هوة الشقاق والتنافر وتكريس حالة التشرذم والتقهقر.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجي إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير علي العنوان: alarab@alarab.net