يشهد الواقع بأن الحياة اليومية داخل محيط الأسرة تكون حافلة بعشرات أو مئات المواقف التفصيلية الصغيرة
الطفل في حقيقة الأمر لا يهمه أن يعامل من قبل الوالدين بنفس الطريقة التي يعامل بها شقيقه وإنما يبدأ في البحث عن هذه الحقيقة عندما نقنعه نحن بأن هذا هو المسار الذي يجب أن يتحرك فيه بإحساسه وشعوره
اعتادت كثير من الأسر في مجتمعاتنا على المبالغة في الحذر من احتمالات أن يكون هناك ميل قلبي من قبل أحد الأبوين أو كليهما ناحية أحد الأبناء، وعلى الرغم من أن مراعاة هذا الخطر في حد ذاتها تعتبر أمرًا محمودًا نظرًا لما نصت عليه الأدلة الشرعية من ضرورة تحقيق العدل في المعاملة مع الأبناء وعدم التفرقة بينهم، إلا أن الأبوين في كثير من الأحيان يقعان في أثناء الممارسة الفعلية في بعض الممارسات التي يكون من شأنها إحداث تأثير عكسي لفكرة السلامة النفسية للأبناء.
يشهد الواقع بأن الحياة اليومية داخل محيط الأسرة تكون حافلة بعشرات أو مئات المواقف التفصيلية الصغيرة التي يحرص فيها الأب أو الأم مع الأبناء – خاصة في حالة أن يكون الأبناء هم ولدان فقط أو بنتان فقط - على التركيز بشكل زائد عن الحد على فكرة أن كل طفل من الطفلين لابد وألا يشعر بأن أخاه مختلفًا عنه في طبيعة المعاملة التي يتلقاها من الأب والأم.
لاشك أن الشرع الحنيف ومن خلال أحاديث نبوية واضحة وصريحة قد حث الوالدين على إحداث درجة كبيرة من التوازن في المشاعر بين الطفلين لضمان أن أحدهما لن يشعر بأن أخاه هو المفضل من الناحية العاطفية لدى والديه أو أحدهما، بسبب ما قد يسفر عنه ذلك من حالة إحباط وصدمة وكبت عاطفي داخل نفسه يزداد بمرور الأيام والسنوات وقد ينتهي بحالة من الاغتراب الكامل عن المجتمع وفي أحيان أخرى يسبب هذا الخلل العاطفي الإصابة بمرض عقدة الاضطهاد، حيث يبدأ الطفل في تفسير كل تصرف يصدر عن الأب أو الأم بأنه يستهدف التقليل منه او تجاهله لحساب أخيه.
ومع الأخذ في الاعتبار أهمية أن يكون هناك هذا الالتزام الأخلاقي من قبل الوالدين في عدم التفرقة بين الطفلين في المشاعر العاطفية والحنان إلا أن الوالدين في كثير من الأحيان يتناسيان أو لا يدركان من الأساس حقيقة أن الطفلين هما مختلفان بطبيعة الحال عن بعضهما البعض في الطباع والاستعدادات والميول وطريقة تلقي المؤثرات الخارجية وكذلك أسلوب التعاطي مع الواقع المحيط.
الطفل يريد أن يشعر بالاهمية
الطفل في حقيقة الأمر لا يهمه أن يعامل من قبل الوالدين بنفس الطريقة التي يعامل بها شقيقه وإنما يبدأ في البحث عن هذه الحقيقة عندما نقنعه نحن بأن هذا هو المسار الذي يجب أن يتحرك فيه بإحساسه وشعوره، فالطفل في حقيقة الأمر يحتاج إلى طاقة عاطفية متدفقة خاصة في المرحلة السنية المبكرة من حياته، فهو يريد أن يشعر دائمًا بأن هناك اهتمامًا من قبل الوالدين بما يقوله وأن هناك تقديرًا مستمرًا لما يصدر عنه من أقوال أو تصرفات، كما يسعد الطفل وتبدأ شخصيته الحقيقية في التشكل مع كل توجيه يصدر عن الوالدين مصحوبًا بالعاطفة الجياشة التي تصل إلى قلبه صادقة.
ومن الملاحظ أن الطفل في مراحله الأولى يكون مستعدًا لتسليم قلبه ووجدانه البكر للوالدين بمجرد أن يشعر بمدى أهميته في الحياة، وهو يرى هذه الحياة من خلال عيني والديه ويتعرف عليها من خلال ما يصدر عنهما من أقوال وآراء ووجهات نظر، وكلما كان الطفل متمتعًا باهتمام حقيقي صادق من قبل الوالدين باعتباره كيانًا مهمًا في الحياة وفردًا له رصيد حقيقي من المراعاة والحنان والتقدير والنقد والتوجيه، كلما تولدت في أعماقه حالة من الإشباع والثقة في النفس تكون كافية للبناء عليها في شخصيته وتربيته في الاتجاه الصحيح الذي يجعله عضوًا فاعلاً ومؤثرًا وصالحًا في مجتمعه.
معاملته على انه الكيان المستقل
وبناء على ما سبق فإن الوالدين يجدان نفسيهما تحت مسئولية أن يتعاملا بهذا المنطق مع كل ابن من أبنائهم باعتباره الكيان المستقل المتفرد في كل تفاصيله فهو ليس نسخة مكررة، وعندها تقل كثيرًا لدى الطفل احتمالات النظر إلى أخيه ومقارنة كمية الحنان والاهتمام التي يحصل عليها هذا الأخ من الوالدين مقارنة بما يجنيه الطفل نفسه، بل إن الطفل الذي يكون في حالة عطاء عاطفي واهتمام مستمر متدفقة عليه من الوالدين يكون فرحًا وفخورًا بأخيه إن حصل على نصيبه الأصيل والخاص من اهتمام الوالدين.
عندما نتعامل كآباء وأمهات مع كل ابن من أبنائنا بهذا المستوى من الاحترام والتركيز وعندما نتعامل مع كيان كل ابن باعتباره كيانًا متميزًا وخاصًا سنكون قد وفرنا على أنفسنا معاناة الدخول في متاهة التخوف من أن يصاب أحد هؤلاء الأبناء بالغيرة من بعضهم البعض.
نحن نخلق المشكلة الخاصة بالغيرة عندما نفقد الثقة في أنفسنا وفي قدرتنا على مواصلة العطاء العاطفي بشكل تلقائي صادق، فنشعر في هذه الحالة بأن كل تصرف يصدر منا مع أحد الأبناء سيكون محل نقد واهتمام وغيرة من قبل الابن الآخر، ذلك لأننا أحيانًا نتعامل مع الأبناء وكأنهم واجب نؤديه أو عمل نقوم به في حياتنا ثم نتركه ونعود لأمور أخرى، بينما لو كان تعاملنا مع أبنائنا باعتبار أن كل منهم هو شخصية مهمة بشكل حقيقي في حياتنا وكيان مؤثر ومتأثر بكل واقعنا ساعتها سنكون قد حصرنا مشاعر الغيرة المحتملة بين أبنائنا في أضيق نطاق وعالجناها بشكل عملي فعال.