أبي وأخي وصديقي وحبيبي رياض أبو عنان – فقيدنا وفقيد الوطن والدَّار. أطلقت لجوادك العنانَ متحديَّاً المرضَ والموتَ.
يا عجباً ها هو جوادك سابقَ الرَّيحَ ولكن إلى القدر المحتوم، اختفيت بسرعة البرق وكلمح البصر وتركتنا فريسَة للذُّهول والشك والرُّعب، حتَّى أنّا لم نصدِّقْ ما جرى ولم نستوعبْ الحدث إلا بعد زمَن.
أقسَمْتَ على ما يبدو ان تكون فوق العنان, فيا ساكنَ السماءِ وها هي أجراسُها تقرعُ والاجراسُ يا أخي لا تُقرع إلا لعظماءِ الرِّجال.
عظيماً كنتَ في كُلِّ ما قلتَ وما فعلتَ.
حكيماً كنت في كل فِكْرٍ حَمَلْتَ.
تواضَعْتَ وعجزنا عن تقليدِكَ فأصبحْتَ المثَلَ والقدوة فكرهَتك الكبرياءُ ونفرتْ منكَ العجرفَة، نذرت نفسَك للنَّاس وحمِلت همومَهم وأصبحت جملَ المحامل، بعد ان عزفتَ على قيثارتِك لحنَ المساواةِ والإخاءِ والتآخي والوفاءِ، وعدْتَ وأوفيْتَ أعطيْتَ واغدقتَ.
زرتَ المريضَ وأطعمتَ الجائعَ وكسوْتَ العريانَ فأحبَّكَ الجميعُ، الصغيرُ قبلَ الكبير وأحباكَ ولدايَ رفول وميخائيل.
ضحَّيتَ الكثير وكنت السَّخيَّ بالوقتِ والمالِ والجهدِ والعرق.
أعمالك الخيريَّة لفَّها الصَّمتُ ولم تجاهرْ بها ولم تدر يدُك اليسرى ما قدَّمتهُ اليمنى واستطعتَ بسحرك الأبويّ أن ترسمَ البسمة على شفاه أطفال حُرموا منها سنين، فيا لَه من سحرٍ غريبٍ عجيبٍ عجِز العلماءُ عن تفسيرهِ فكنتَ المنقذ والبلسمَ الشافي وكنتَ طبيبَ الجراح.
منذ ولادتك تغذَّيتَ بحليبِ هذا الوطن، أحببت كلَّ ذرَّةِ ترابٍ، بل قدَّستها وعفَّرْتَ وجهك بها.
وفي شبابك زدْتَ حماساً ووطنيَّة، فطالبتَ بحقوق سُلبت وناضلتَ من أجل إعادتِها بالعمل الدَّؤوبِ بالايمان، بكلمة الحقّ وبالحجَّة.
لم يُغْرِك ولم يُثنك عن عزمِك لا الأخضر الفتَّان ولا الأصفر الرَّنان، بل ملأتَ جيوبَك وخوابيكَ وخزائِنكَ بالمحبّةِ والاخلاص والوفاءِ.
لم ترغب زعامة جوفاءَ فارغة لأنكَ لم تهوَ المناصبَ والكراسي وفضَّلتَ قاعدة الهرم على قمَّتِهِ وقلتَ في نفسك سأبني القاعدة ليكون الهرمُ قويَّاً ثابتاً كالطودِ الأشمّ وقلتَ في نفسك سأجمعُ من حولي ما استطعتُ من سواعدََ نظيفةٍ وقلوبٍ طاهرةٍ نقيَّةٍ مؤمنةٍ بالله وبالقضيةِ وبالعدالةِ فبقيتَ في وسطِ الشعبِ يا حبيبَ الشعبِ جنديَّاً شاكي السلاح لا يكلّ ولا يملّ وجواداً يُحَمْحِمُ حتى كوّنتَ جيشاً عرمرماً يُؤمن بمبادئِك.
فأصبحْتَ قائداً شعبيَّاً من دون أن تشعرَ انتَ بذلك وأصبحْتَ النورَ الذي لا يَخْبو وعمودَ سحابٍ لشعبٍ هُجِّرَ وشُرِّد وسُلبَ ونُهِبَ وذاقَ المُرَّ وشرِبَ الخلَّ وتجلَّت زعامتك الشعبية يومَ رحيلِك عنَّا حيثُ ضاقت الدَّارُ والساحاتُ بوفودِ المعزِّين المحبِّين، الذين شَيَّعوك الى مثواك الاخير.
زادت وطنيتك حِدَّة عندما عرفتَ "ناصر"، ذاك المارد الأسمر الجبَّار، ذاك العربي الوطني الأصيل، الذي أحيا الجسدَ العربيِّ المِّيت، فدبَّت الروحُ فيه وتحرّك وهزَّ الأرضَ، وآمنتَ بكُلِّ ما كتبَ وقال وحفِظت اقواله وردّدتها في كل مناسبةٍ وعمِلتَ من أجل تحقيق مبادئِهِ الساميةِ وأولها الوحدةُ، فأحببتَ الناسَ كلَّ الناس، لم تفرّقْ بين جليليّ ومثلثيّ ونقبيّ ولم تفرّقْ بين مسلم ومسيحيّ ودرزيّ أو بين فقير وغنيّ.
عاش ناصرُ في قلبك وفي عقلك ووجدانك وعشَّش كالطير في خلايا جسدِك وفي أحاسيسِك وفي داخل شرايينك وفي ضميرك، وأصبح ناصرُ مُعلمَك الاول، بنور كلامه تهتدي، تتلمذت عليه وكنت نعم التلميذ وأصبحتَ يا أخي وحبيبي رسولَ سلام وداعيَ وحدةٍ وناصرَ مظلوم.
جمعتني بك القوميّة العربيّة الحقيقية وكنا نلتقي في الرأي ان قضية فلسطين هي قضية وجودٍ لا مجردَ قضية حدودٍ، لذا فإنها قضية إنسان سُلبَ حقهُ في الحريَّةِ وتقرير المصير قبل أن تكون قضية ارض، وبناءً عليه فإن الحل المنشودِ للقضيّةِ ليسَ في القرار 242 الصادر عام 1967 وإنما في القرار 194 الصادر عام 1948. قضية فلسطين بعبارةٍ موجزةٍ تعادلُ حقَ العودةِ للاجئينَ الى ديارهم وإطلاق سراح الأسرى الأبطال.
عرفتك صديقاً وفيَّاً وحميماً أبثه لواعجي القومية فتشاطرُني أفراحي وأتراحي، همّي ورجائي، حيالَ ما يواجه الوطنُ العربيّ في شتّى الاقطار من تحولاتٍ وتغيراتٍ وتقلباتٍ، وكان همّك وهمّي "سوريا"، قلبُ العروبةِ النابض، حاضنة المقاوماتِ الفلسطيّنيةِ والعراقيّةِ واللبنانيّةِ والممانعةِ فكنا معاً في الرأي: نحن مع سوريا ووحدةِ سوريا ومع القيادةِ السورية والجيش السوريّ الباسل حُماة الديار، هذا هو الموقف القوميّ الواضحُ والصريحُ، فلا رماديَّة في الموقف، فإما أن تكون مع سوريا ووحدتها وإما ان تكون في المعسكر الاخر الصهيونيّ الامريكيّ – القطريّ السعوديّ التركيّ الذي هدفه تفتيت سوريا وتدميرها ومعها جميعَ الاقطار العربيةِ بالتعاون مع الاسلام السياسيّ والسلفيّين وما يسمى بالربيع العربيّ زوراً وبهتاناً ما هو الا الربيع العربيّ التكفيريّ.
أبا عنان كنت صاحبَ أقوى سلاح ألا وهو سلاحُ الموقفِ ولم تكن كالافعى الرقطاء التي تبدّلُ كل يوم جلدَها مثلَ غيرك من تجّار الكلام.
كنت الأبَ الحنونَ والزوجَ الصالحَ فكوّنتَ اسرة، ربّيتَ وهذبتَ وبنيتَ وأنشأتَ فنعمَ البناءُ ونعمَ التنشئة.
شكَّلتِ الاخلاقُ القاعدة الذهبَّية لبيتك وأسرتك – أصبحت أنت وأسرتك مضربَ المثل. ولقد وقفت الى جانبك تدعمُك وتحملُ جزءاً من همومك لتخفّف عنك العبء إمراة مؤمنةٌ صالحةٌ فاضلةٌ هي أمّ عنان فوفرت لك الوقتَ لأجل الآخرين.
فها هم أولادك وأحفادك يقسمونَ اليمينَ بأنهم على طريقك سائرون يصونون الامانة التي تركْتها ويعملونَ بحسبَ وصاياك وتعاليمِك.
أيّها الغائبُ الحاضرُ فينا
نشتاق لك لانَّا نحبّك، كنت خيرَ جليس وخيرَ سمير.
تركتَ بصماتِك في كل زاويةٍ من زوايا هذا الوطن الغالي.
نشتاقُ لك كلما حلّ ربيعٌ ورحل شتاءٌ، كلما عادت الطيورُ من رحلتِها البعيدةِ، نشتاقُ لكَ مع طلَّةِ كلّ صباح، مع كل فنجان قهوةٍ نرتشفه ومع كل بسمةٍ تزيّنُ ثغرَ طفل حزين.
تركتنا ولكننا نفتقدكَ ولن ننساكَ، ستبقى الرَّمز والعلم والمعلم.
وفي الليلةِ الظلماءِ يُفتقدُ البدرُ.
موقع العرب يفسح المجال امام المبدعين والموهوبين لطرح خواطرهم وقصائدهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع منبرا حرا في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع على العنوان: alarab@alarab.net