الشيخ ناصر دراوشة في مقاله:
لخطورة العجلة نسبت إلى الشيطان كما جاء في الحديث: «التأني من الله والعجلة من الشيطان»
كم من أرواح أزهقت بسبب العجلة في الشوارع وكم من أسرة تهدمت بسبب عجلة أحد الزوجين في الحكم على الآخر؟
ما أحوجنا في عصر السرعة إلى التأني والروية والتؤدة والرفق والصبر والنظر في أمورنا كلها لنظفر بالمقاصد والغايات ونسلم من الندامة والخسران
لا نزال نسمع أن هذا العصر هو (عصر السرعة)؛ لما فيه من سرعة المواصلات، وسرعة التقنيات، وسرعة الإنجازات، وهذا أمر جيد ولا شك؛ لأن فيه تيسير الحياة على الناس وتوفير الأوقات والجهود، إلا أن الأمر اللافت للنظر هو انعكاس هذه المقولة على ثقافة الناس وسلوكهم، فالعجلة والاستعجال، والضجر وقلة الصبر، والرعونة والاستهتار سواء في الطرقات، أم في مواضع الاجتماعات كالوزارات والمجمعات تجد هذه الظاهرة بارزة بشكل واضح ولافت فكم من أرواح أزهقت بسبب العجلة في الشوارع، وكم من أسرة تهدمت بسبب عجلة أحد الزوجين في الحكم على الآخر أو استعجاله في ردة فعله، بل وصلت العجلة إلى المساجد فبعض الأئمة يستعجل في صلاته فلا يدرك المأموم القراءة أو التشهد، وبعض المأمومين يستعجل في صلاته فلا يطمئن في ركوعه أو سجوده، أو يبادر بمغادرة المسجد قبل أن يردد أذكار الصلاة أو يؤدي النافلة.
خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ
وكذلك تبرز العجلة في المجتمع في الحكم على الناس والأشياء قبل التثبت سواء في وسائل الإعلام أم في المجالس واللقاءات، وكذلك في سرعة الجواب بين المتحاورين قبل فهم الكلام أو حتى قبل أن يكمل الآخر كلامه، وأمثلة لا تنتهي من مظاهر العجلة المذمومة وآثارها الخطيرة. وبالتأمل في كتاب الله تعالى نجد أن العجلة - في غير أمور الدين والآخرة - مذمومة، كما قال [: «التؤدة في كل شيء خير، إلا في عمل الآخرة»أخرجه أبو داود وصححه الألباني. فقوله تعالى:{خلق الإنسان من عجل} أكبر دلالة على هذه الحقيقة الشرعية، وقد تباينت أقوال العلماء في المراد بهذه الآية:
قال ابن سعدي: «{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي: خلق عجولا، يبادر الأشياء، ويستعجل بوقوعها، فالمؤمنون يستعجلون عقوبة الله للكافرين، ويتباطئونها، والكافرون يتولون ويستعجلون بالعذاب، تكذيبا وعنادا، ويقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} والله تعالى يمهل ولا يهمل ويحلم، ويجعل لهم أجلا مؤقتا { إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَْ} ولهذا قال: { سَأُرِيكُمْ آيَاتِي} أي: في انتقامي ممن كفر بي وعصاني {فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} ذلك، وكذلك الذين كفروا يقولون: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} قالوا هذا القول، اغترارا، ولما يحق عليهم العقاب، وينزل بهم العذاب.»اهـ. وقال القرطبي: «{خلق الإنسان من عجل} أي ركب على العجلة فخلق عجولا ؛ كما قال الله تعالى:{الله الذي خلقكم من ضعف} أي: خلق الإنسان ضعيفا، أي: طبع الإنسان العجلة، فيستعجل كثيرا من الأشياء وإن كانت مضرة.»اهـ.
وكان الإنسان عجولا
وقال ابن كثير: «وقوله: {خلق الإنسان من عجل}، كما قال في الآية الأخرى: {وكان الإنسان عجولا} أي: في الأمور. والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت، فقال الله تعالى:{خلق الإنسان من عجل}; لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، يؤجل ثم يعجل، وينظر ثم لا يؤخر; ولهذا قال: {سأوريكم آياتي} أي: نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني، {فلا تستعجلون}. وقال الطاهر: «والعجل: السرعة، وخلق الإنسان منه استعارة لتمكن هذا الوصف من جبلة الإنسانية، شبهت شدة ملازمة الوصف بكون مادة التكوين موصوفة؛ لأن ضعف صفة الصبر في الإنسان من مقتضى التفكير في المحبة والكراهية. فإذا فكر العقل في شيء محبوب استعجل حصوله بداعي المحبة، وإذا فكر في شيء مكروه استعجل إزالته بداعي الكراهية، ولا تخلو أحوال الإنسان عن هذين؛ فلا جرم كان الإنسان عجولا بالطبع فكأنه مخلوق من العجلة، ونحوه قوله تعالى: {وكان الإنسان عجولا}، وقوله تعالى: {إن الإنسان خلق هلوعا}. ثم إن أفراد الناس متفاوتون في هذا الاستعجال على حسب تفاوتهم في غور النظر والفكر، ولكنهم مع ذلك لا يخلون عنه.
عاقبة المسلمين
وجملة: {سأريكم آياتي} هي المقصود من الاعتراض، وهي مستأنفة، والمعنى: وعد بأنهم سيرون آيات الله في نصر الدين، وذلك بما حصل يوم بدر من النصر وهلاك أئمة الشرك وما حصل بعده من أيام الإسلام التي كان النصر فيها عاقبة المسلمين. وتفرع على هذا الوعد نهي عن طلب التعجيل، أي عليكم أن تكلوا ذلك إلى ما يوقته الله ويؤجله، ولكل أجل كتاب، فهو نهي عن التوغل في هذه الصفة وعن لوازم ذلك التي تفضي إلى الشك في الوعيد»اهـ.
ومن عجيب أمر العجلة أنها تحمل الإنسان على أن يضر نفسه كما قال تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولا }، قال ابن سعدي: «وهذا من جهل الإنسان وعجلته حيث يدعو على نفسه وأولاده وماله بالشر عند الغضب ويبادر بذلك الدعاء كما يبادر بالدعاء في الخير، ولكن الله - بلطفه - يستجيب له في الخير ولا يستجيب له بالشر: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ}»اهـ.
ولخطورة العجلة نسبت إلى الشيطان كما جاء في الحديث: «التأني من الله، والعجلة من الشيطان» أخرجه البيهقي وحسنه الألباني، ومعلوم أن كل ما أضيف إلى الشيطان فهو مذموم كما قال تعالى: {هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين}.
التحذير من العجلة والطيش
ولهذا كثرت أقوال العلماء في بيان فضل الرفق والتؤدة والتحذير من العجلة والطيش، قال الحسن بن علي رضي الله عنهما: «اعلموا أن الحلم زينة، والوفاء مروءة، والعجلة سفه، والسفر ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين، ومخالطة أهل الفسق ريبة». قال أبو حاتم في روضة العقلاء: «الرافق لا يكاد يسبق، كما أن العَجِل لا يكاد يلحق، وكما أن من سكت لا يكاد يندم، كذلك من نطق لا يكاد يسلم، والعجل يقول قبل أن يعلم، ويجيب قبل أن يفهم، ويحمد قبل أن يجرب، ويذم بعد ما يحمد، ويعزم قبل أن يفكر، ويمضي قبل أن يعزم، والعجل تصحبه الندامة، وتعتزله السلامة، وكانت العرب تكني العجلة، أم الندامات.
ونقل عن إبراهيم بن عمر بن حبيب قوله: كان يقال:لا يوجد العجول محمودا، ولا الغضوب مسرورا، ولا الحر حريصا، ولا الكريم حسودا، ولا الشره غنيا، ولا الملول ذا إخوان».
وقال أبو حاتم أيضا مبينا سبب العجلة وأثرها: «العجلة تكون من الحدة، وصاحب العجلة إن أصاب فرصته لم يكن محمودا، وإن أخطأها كان مذموما، والعجل لا يسير إلا مناكبا للقصد، منحرفا عن الجادة. ونقل عن خالد بن برمك أنه قال: من استطاع أن يمنع نفسه من أربعة أشياء فهو خليق ألا ينزل به كبير مكروه؛ العجلة، واللجاجة، والعجب، والتواني، فثمرة العجلة الندامة، وثمرة اللجاجة الحيرة، وثمرة العجب البغضة، وثمرة التواني الذل.»اهـ.
فما أحوجنا في عصر السرعة إلى التأني والروية، والتؤدة والرفق، والصبر والنظر، في أمورنا كلها لنظفر بالمقاصد والغايات ونسلم من الندامة والخسران، وبالله التوفيق.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net