فادي الحسيني في مقاله:
ربط الكثير ممن رأى في ثورات العرب أو ما أطلق عليه الربيع العربي جزءاً من نظرية المؤامرة أراءهم بتصريحات وكتابات غربية كثيرة
رأى الشاب العربي تطور ونجاح ونصر يحققه الآخرون وأوضاع إقتصادية وإجتماعية تمنوها لأنفسهم وقد ساهمت الشبكات الإجتماعية والتطور التكنلوجي في علم الإتصالات في تناقل الجيل الشاب لهذه الاهتمامات
إنطلقت شرارة الثورات العربية من تونس الخضراء والتي عرفت بهدوءها ودماثة طباع أهلها وما هي إلا أيام لتنتشر الثورات كالحمى من بلد لبلد ومن دار لدار وتحول العالم الخيالي على شبكة الإنترنت لواقع حقيقي
على الرغم من التخبط الغربي والأمريكي حيال ثورات العرب إلا أنه ومع مرور الوقت بدأت هذه القوى في إستعادة توازنها وأعادت تقييم الموقف بناء على المعطيات الجديدة في محاولة لجعل نتائج هذه التطورات تصب في مصلحتها
ما أن قرعت الثورات باب المنطقة العربية، وتسحبت بسرعة عبر بوابات وأسوار قصور حكامهم، لتخلع بعضهم، وتهز عروش آخرين، بدأت تنهال التحليلات من كل حدب وصوب، فترى فريق يرى فيها خطة غربية محكمة لتغيير خارطة الوطن العربي، أو ما تبقى منه، وفريق آخر يرى أنها إنتفاضة كرامة وكبرياء طال إنتظارها، وبين هذا الفريق وذاك آخرون يرون فيها مادة علمية غنية لتحليل خلفيات ودوافع هذا الحدث الجلل، الذي عكس طفرة في منطقة وصفت كثيراً بخمولها وبطء تفاعلها مع التغيرات العالمية. نهدف في مقالنا اليوم إبراز وجهات النظر الشائعة، والمتداولة كثيراً هذه الأيام، ليس في الوسط الأكاديمي والسياسي فحسب، بل وسط جموع الشعوب العربية التي إنتابها الكثير من القلق والتوجس بعد أن ذاقوا طعم الأمل مع أول شرارة إنطلقت من تونس الخضراء، مع قيامنا بتقديم تحليل مبسط يسهل على القارئ تحديد ملامح هذا الحدث الهام.
صورة جديدة
ربط الكثير ممن رأى في ثورات العرب أو ما أطلق عليه الربيع العربي جزءاً من نظرية المؤامرة، أراءهم بتصريحات وكتابات غربية كثيرة، كأمثال مقالات كتاب مثل برنارد لويس، وتيري ميسان، والتي صورت المنطقة العربية بصورة جديدة، تشبه نسيجاً وشكلاً جديداً للمنطقة العربية أشبه بما حدث في إتفاقية سايس بيكو. أما على المستوى الرسمي، فكان مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أطلقته إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش الأمريكية في في مارس 2004 علامة ودليلاً أخراً لمثل هذا التوجه. جاء مشروع الشرق الأوسط الكبير في إطار مشروع شامل يسعى إلى تشجيع الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي في منطقة تضم كامل البلدان العربية إضافة إلى تركيا، إسرائيل، إيران، أفغانستان وباكستان. بنيت النظرة الأمريكية لهذا المشروع على عاملين أساسيين أولهما ضرورة إعادة ترتيب أوضاع المنطقة بعد إحكام سيطرة القطب الواحد على زمام الأمور في العالم، أما العامل الثاني فهو إصلاح ما أفسدته الحروب الأمريكية في العراق وأفغانستان، والتي أضرت كثيراً بصورتها، ومصالحها وتطلعاتها. ضعف الثقة بالراعي الأمريكي، وإنعدام رؤية واضحة لهذا المشروع أدى لفشله، ووضعه جانباً حال مشاريع إقليمية سابقة ولاحقة (مثل الإتحاد من أجل المتوسط الذي لاقى ذات المصير). هذا الفشل دفع المخطط الأمريكي للبحث عن خطة جديدة، تؤتي ثمار لم تستطع سابقتها أن تحققها، فبدأ البحث في مشروع الإسلام المعتدل (المقصود نظم إسلامية معتدلة)، تبدأ بوصلتها بحزب العدالة والتنمية التي نجحت وإستمرت في تركيا منذ عام 2002، وتستمر بالترويج إلى النموذج التركي، وما يشبهه أو يحاكيه من أنظمة إسلامية في المنطقة.
أنظمة إسلامية معتدلة
ومن هنا، فإن أصحاب هذا الرأي يرون أن إنطلاق الثوارات العربية ما كانت إلا إعلاناً لبدء الخطة الأمريكية الجديدة بوضع أنظمة إسلامية معتدلة، قدمت في وقت سابق أوراق إعتمادها لرأس الهرم العالمي، لتكون راعياً مقبولاً لمصالحها، وتكون نموذجاً جديداً ومختلفاً عن الأنظمة السابقة التي إتسمت بالشكل الغربي- إن صح التعبير. يربط أصحاب هذا الرأي حجتهم بالعلاقات التي ربطت هذه الجماعات الإسلامية بالولايات المتحدة الأمريكية قبل وبعد الثورات، وكذلك العلاقات الدافئة بينها وبين الغرب، حيث إحتضنها في الوقت الذي كانت تكافح من بطش الأنظمة السابقة.
تصاعد وتيرة الإحباط
الرأي الآخر، والذي أميل إليه أكثر، هو أن ثورات العرب ما كانت لتقوم إلا لتصاعد وتيرة الإحباط وسط جيل الشباب العربي. هذا الجيل، وهي الشريحة الأكبر من مكونات الشعوب العربية، ورثت عن أبائها قصص وحكايات عن مجد غابر، وأمة سبقت الكثير من الأمم في الحضارة والعلوم والثقافة والقوة على حد سواء. ولكن هذه القصص إصطدمت يوماً بعد يوماً بواقع محبط يملأه الشعور بالتبعية الصريحة لحكامهم للقوى الأخرى، وهزائم متتالية، وأوضاع إقتصادية كئيبة، وظروف إجتماعية صعبة، مع إستمرار حالة القهر وإنعدام الديمقراطية وحرية التعبير. أما حكامهم فقد غالوا في سطوتهم، وبالغوا في ثقتهم، فأضحت الإنتخابات التشريعية أضحوكة ومسرحاً للسخرية، وأصبحت قضية توريث أبناء الحكام للسلطة (في النظم الجمهورية نظرياً) مادة فكاهية تختلط بمرارة وحسرة الواقع. في المقابل، رأى الشاب العربي تطور ونجاح ونصر يحققه الآخرون، وأوضاع إقتصادية وإجتماعية تمنوها لأنفسهم، وقد ساهمت الشبكات الإجتماعية والتطور التكنلوجي في علم الإتصالات في تناقل الجيل الشاب لهذه الاهتمامات، وأصبح عالم الإنترنت هو العالم الذي يعبرون فيه عن مكنون أنفسهم.
لحظة الحقيقة
جاءت لحظة الحقيقة، بغير توقع من أي خبير أو محلل أو سياسي، وإنطلقت شرارة الثورات العربية من تونس الخضراء، والتي عرفت بهدوءها ودماثة طباع أهلها، وما هي إلا أيام لتنتشر الثورات كالحمى من بلد لبلد، ومن دار لدار، وتحول العالم الخيالي على شبكة الإنترنت لواقع حقيقي، يؤتي أكله ويغير واقع مقيت، بعد أن قلل حكامهم من قيمة هذه الشبكات الاجتماعية، وهو ليس بالأمر الغريب، فمعظم حكام العرب هم من جيل قديم بعيد عن أفكار وإهتمامات الجيل الشاب. ما يدعم هذا الرأي عدد من الحقائق، أولها التخبط الغربي والتردد حيال هذه الثورات في بادئ الأمر، فدفعت وزيرة الخارجية الفرنسية ثمناً للثورة التونسية، حيث إضطرت ميشيل آليو ماري للاستقالة بعد أن أعربت قبيل أيام من فرار الرئيس السابق زين العابدين بن علي عن استعداد فرنسا لتقديم خبرتها لنظامه في مجال حفظ الأمن في الأيام الأولى من ثورة تونس. أما الموقف الأمريكي، فإتسم بالارتباك مع إنطلاق الشرارة الأولى لثورة الياسمين. مراسلة الـ"بي بي سي" في واشنطن كيم غطًاس وصفت ردود الفعل الأولى للخارجية الأمريكية "بأخذتهم الصدمة"، مضيفة بأنه لم يكن لديهم معلومات كافية عن تونس في الفترة الأخيرة. وبالفعل، إقتصرت التصريحات الأمريكية في الأيام الأولى للثورة التونسية على إرشادات ونصائح أمنية لمواطنيها المتاوجدين في تونس.
القوة الناعمة
لن يفوتنا في هذا السياق التنويه لحقيقة أخرى، وهو أنه وعلى الرغم من التخبط الغربي والأمريكي حيال ثورات العرب، إلا أنه ومع مرور الوقت، بدأت هذه القوى في إستعادة توازنها، وأعادت تقييم الموقف بناء على المعطيات الجديدة، في محاولة لجعل نتائج هذه التطورات تصب في مصلحتها، ومحاولة إستمالة الفائز في هذه الثورات، وخاصة أنها تمتلك القوة بكافة أنواعها، فتحسن إستخدام القوة الناعمة من خلال المشاريع التنموية والمساعدات، والتعاون الثقافي والاكاديمي والعلمي والفني وغيره، أما في القوة الخشنة فهي الأكثر تميزاً حيث تمتلك القوة العسكرية الأكبر في العالم، وتمتلك رصيداً وأحلافاً في العالم يجعلها أيضاً تستخدم السلاح الاقتصادي والعقوبات كسلاح فاعل ومؤثر. إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية، تفضل أن تستخدم ما أطلقت عليه وزير الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون القوة الذكية، وخاصة حيال منطقة الشرق الأوسط العربي، وهي مزيج بين القوة الناعمة والقوة الخشنة.
نظريات جديدة
الفريق الثالث يرى في ثورات العرب الجديدة مادة علمية غنية، تستحق الدراسة، كمسرح جيد لربطها بنظيرات سابقة، وكمنبر هام لإطلاق نظريات جديدة في السياسة الدولية. فبدأ البعض يربط هذه الأحداث بالمدرسة الواقعية، في تفسيرهم لحالة الفوضى والتحالفات وإستخدام القوة، وآخرين ألصقها بالمدرسة الليبرالية الجديدة لتفسير دور القوة الناعمة لدول إقليمية، والدور الدبلوماسي للدول الكبرى والتي أثرت في سير الأحداث، وكذلك حالة الإرتباط بين دول الربيع العربي، وغيرهم ربطها بنظرية الثورات ليثبت صحة هذه النظرية بمركباتها المختلفة، وآخرين ألصق الأحداث بنظرية الدور لتفسير أدوار الدول الإقليمية والعالمية في هذه الأحداث. أما التوجه الجديد فهو إبتداع نظيرات جديدة لتفسير الربيع العربي، فمثلاً رأى البعض أنها الموجة الرابعة لموجات التغير الديمقراطي العالمية (في إشارة لنظرية هاننجتون)، وآخرين رأوا أنها الحلقة الثالثة من ثورات العرب- كما أسلفنا في مقالنا السابق بعنوان "ربيع جديد: الشرق الأوسط بين تاريخ الثورات ومستقبل البلاد".
عطر الوطنية وروح العطاء
إن الأمر الذي لا يدعو للشك هو أن الثورات هزت قلوب جميع سكان هذه المنطقة، وبعد أن مثًلت بارقة أمل لجميع الشعوب العربية، أدى إستمرارها وتصاعد وتيرة العنف إلى فقدان الكثير من ثقتهم بها، وبدأ الشك يتسلل لنفوسهم، وبدأت تتساور لعقولهم أنها مكيدة جديدة لتدمير ما تبقى من الوطن العربي. ما زاد من حدة هذه الشكوك هو التكالب الخارجي على المنطقة بعد هذه التغيرات، حيث بدأت جميع الدول، إقليمية وعالمية، تحاول في نسج علاقات جديدة مع الأنظمة الحديثة من أجل تأمين خطوط مصالحها، كما كانت على سابق عهدها، أو أفضل إن إستطاعت. إلا أن التشكيك في نوايا وإنتماء من قام بثورات العرب يهدف بشكل مقصود أو غير مقصود لبث روح الهزيمة من جديد في نفوس العرب، بعد أن إستفاقوا من غيبوبة طويلة، داهمت خلالها أوهام الشك مخابئ طموحاتهم، وأوهنت كوابيس الإحباط ركائز عزائمهم، ليظهر وكأن العنصر العربي حتى وإن إنتفض، سيبقى ألعوبة تترامها أقدام الطامعين. ولكن، ويل لليقظة إن لم تمتزج بالانتماء، والثقة والجرأة إن لم تعبق بعطر الوطنية وروح العطاء، وهو السبيل للمحافظة على خطوة أولى في طريق تحرير أمة من براثن التبعية ووأد الكبرياء. فمن أجل مستقبل يحاكي أيام غرّاء، تسحق مؤامرات، وتزاح أنظمة، توقظ إرادة وتستفاق عزيمة، في أمة لن تعجز أن تلد في اليوم آلاف الأبطال: هي أمة العرب، أمة الشهداء، أمة الأنبياء.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net