بعد طول انتظار في صف طويل لا ينتهي من الناس الذين يدفعون عرباتهم المثقلة بالبضائع التي اشتروها من جنين، أتى دور عنان للتفتيش، الذي بدوره، اشترى هو أيضا معدّات للبناء من هناك، لأنها أرخص بكثير مما عليه داخل ما يسمى "الخط الأخضر". في ذلك اليوم كما يبدو... وصلت إخبارية حول عملية انتحارية مُخطط للقيام بها عند أحد المعابر أو الحواجز بين الضفة الغربية وإسرائيل، فكان الجنود (أو المأجورون من قِبل شركة... لا يهم) في الحاجز "المحسوم" بحالة تأهب قصوى "كوننوت جفوها" وكانوا أيضا، كما يبدو، في حالة تأهب للهجوم، والوثوب والوقاحة والاستهتار بالناس "والمجافصة" وكل ما يخطر على بالك عندما تكون حالة توتر قصوى، فتسقط كل المعاهدات والاتفاقات ويكتسب كل شيء شرعية اللحظة التي تعلن بها ال- "كوننوت جفوها" بكل ما فيها من أذى على كافة الأصعدة.
فترى الناس يتدافعون وينتظرون وينتظرون، بالرغم من أن جميعهم يتَّجهون إلى بيوتهم في إسرائيل ويحملون بطاقة الهوية الزرقاء التي تؤكد إسرائيليتهم، أي نعم "منتقصين" ولكن ما زالوا إسرائيليين، يتكلمون العبرية بطلاقة وأحيانا كما العربية وملابسهم وسلوكياتهم الاجتماعية ورقم هويتهم المحفور في أذهانهم منذ نعومة أظفارهم، كل ذلك يجعلهم إسرائيليين... لكن أقل! فهم ليسوا يهودا، لذلك حتى وإن تكلموا العبرية بطلاقة وإن كانوا من حاملي بطاقة الهوية الزرقاء، فإن الحالة في "المحسوم" تجعلهم، هم ذاتهم، من أولائك المشكوك بأمرهم! يُفتَشون من أعلى شعرة في رؤوسهم حتى أخمص أقدامهم ويفقدون في هذا "الزمكان" كل ملامح مواطنتهم ويتحولون إلى أزمة أمنية وديموغرافية وايديولوجية ويشكّلون تهديدا على الدولة، لذلك فالتعامل معهم يكون أيضا بحالة تأزم وبمنتهى الصراحة، بتشنج مطلق وبدون "زعل" بأنهم "عدو" وليس فقط هم، إنما أيضا ملابسهم وأمتعتهم، والحاجيات التي اشتروها إن كانت بذورا أو خيارا أخضر أو أوانٍ زجاجية أو أقمشة، أو تلك المعدات التي أحضرها معه عنان، وحتى أحذيتهم أيضا تخضع للتفتيش، والمذهل أن سياراتهم التي تحمل لوحات الترقيم الصفراء الإسرائيلية تخضع هي الأخرى إلى تفتيش داخلي وخارجي وفوقي وتحتي، ففيها كل الملامح التي تقول أنها ليست مواطنة "حقيقية" وليست مواطنة "كاملة" ومثيرة للشك، فتلك المسبحة أو الألعاب على شتى أنواعها التي تتدلى من مرآة زجاج السيارة الأمامي، "تفضح" أمرها، أو الستائر السوداء أو النبيذية، أو لاصقات مسبحة الهلال أو الصليب التي يضعها بعض السائقين على خلفيات سياراتهم لتعلن (لمن يهمه الأمر!) هوية سائق تلك السيارة التي صنعت في بلاد بعيدة جدا عن هنا... وتُدخلها قسرا في دوامة الحضور المنكوب بالغيبيات في هذا الشرق! "الويل لأمة كثرت فيها طوائفها وقلّ فيها الدين! الويل لأمة تلبس مما لا تنسج وتشرب مما لا تعصر..." تلازمني حكمة جبران كالظل!
بعد معاناة وسط ذلك الكم البشري المتزاحم "القائظ"، وصل عنان غرفة مغلقة من كل الجهات وفيها باب صغير واحد، والجميع يعرف انه هناك يتم التفتيش الشخصي، إضافة إلى البضائع، ولكن التفتيش هناك بالذات يكون بشكل غير مهذب ويبتعد جدًا عن التأديب، كما يبدو بسبب حالة التوتر التي تعرَّض لها الجنود حينها، أو حالة التوتر المزمنة التي يخضع لها الجنود الذين لا تتعدى تجربتهم في الحياة سوى سنة واحدة بعد إنهاء المدرسة الثانوية.
بعدما مرَّ عنان في المرحلة الأخيرة من التفتيش الدقيق، تأكدوا بأنه لا يحمل أي متفجر، وإن كان يحمل أي متفجر سرّي، فقد قاموا بتفجيره سرًّا أيضا ولعنوا "أبو أبوه" داخل ذاته المحترقة، وتفجّرت براكينه الخامدة دون هوادة ألف مرة أمام المَهانة التي سلبته حق مواطنته لتذكيره بتدريج هويته الإسرائيلية الهلامية المتحوّلة...
في زحمة انفجاراته الذاتية وتأملاته، صاحت في وجهه جندية: "تتكادِم"، فتقدم ووجهه يحتفل بألوان الطيف المختلط مع استفهامه... لا يعاملونه هكذا في ال-"محسوم"! حتما هناك ما أثار غضبهم! ليس في كل المرات يكون هذا التفتيش! هم أرقى من هذا التعامل! حالة من الإنكار؟! حالة من التضامن؟! حالة من التفهم!! حالة من حالة... وفي دوامة استفهامه، باغتته تلك الجندية وسألته بعض الأسئلة، أجاب محاولا رسم بسمة على وجهه، تستمر الجندية بالأسئلة دون اكتراث لملامحه أو لإجاباته، تناديها زميلة لها: "عنات بوئي ريجاع" فتلبي النداء وتذهب إليها، وتتركه للحظات أمام نفسه الموزّعة على طاولة قليلة العَرض والعَرض وكثيرة العَرض!!! وليس باليد حيلة غير الامتعاض والانتظار بصمت أمام حالات الإحراج والاستهتار، ليجد مساحة واسعة في خياله ليشتم، ولا يعرف من يلعن، الدولة أم العنصريّة هل يلعن العرب، اليهود، الدين، الدنيا، أمريكا، الدول العربية، أعضاء الكنيست العرب وترهاتهم، الربيع العربي؟... تشتَّت في زحام الشتائم المتراكمة في قاموسه والتي تتناهى مع إحساسه بجرح كرامته الكبير ويصمت كما يصمت كل العالم هناك على الحاجز! ولعن زوجته، حين تذكر يوم ذكرى شهداء إسرائيل الذي تحتفل به الدولة قبيل يوم الاستقلال، زوجته تلك التي وبّخته حينما انطلق بسيارته ولم يتوقف عند سماع الصفير، كما فعل باقي السائقين، عندما أعلن الصفير دقيقة حداد في البلاد على أرواح شهداء إسرائيل وأقنعته أن يوقف السيارة احتراما لظواهر الحداد في يوم الذكرى!
انتهت رحلة الإذلال التي دامت نحو الساعة في تلك البقعة المشوَّهة من الأرض، وودّع "عنات" بكلمة "تودا" يشكرها على أنها لم تكن قاسية أكثر من اللازم وشعر أنها لم تبالغ في تفتيشها له... حتى أنه شعر بتقرّب منها لأنها وافقت على عبوره ال-"محسوم" ودخوله إلى بيته! حتى قال لها بالعبرية بتحبب: "اسمك مثل اسمي، فقط في نهايته مختلف (لم تفهم تماما ولم تبدِ ملامح وجهها أي اهتمام) فأضاف: "أنا عنان وأنت عنات" وهزَّ رأسه وأصدر صوت ضحكة خفيفة وارتسمت على شفتيه ابتسامة عريضة بعرض تجهّم وجه "عنات" التي لم يرُقها الحديث.
انطلق من هناك مباشرة إلى بيته في الناصرة، واتصل بزميله وصديقه "موشيه" الذي يعمل معه في الورشة في "بيتاح تكفا"، شئتم أم أبيتم، أو ملبّس إذا أبيتم، كما دعيت مرة لكن نسوا اسمها تماما وهي نسيت ملامحها خلف واجهات العمارات الكبيرة، وأبلغه أنه أحضر اللازم وسيجلب المعدّات معه في اليوم التالي إلى الورشة. في طريق عودته توقف قرب مجمَّع تجاري ودخل لشراء بعض المسليات التي يحبها أولاده الأربعة ولا يوجد منها في جنين وكذلك الشوكولاطة المحشوة بمربى التوت التي تحبها زوجته ولم يجد منها هناك لسبب ما!
في مدخل المجمّع التجاري وقبل التفتيش الأمني عند الباب أسوة بكل المجمَّعات التجارية في البلاد، استوقفته فتاة جميلة غضَّة تلبس البزّة العسكرية وترسم بسمة جذابة على شفاهها الصغيرة، توجهت نحو عنان باحترام بالغ وتهذيب ناعم وبعينين ترقصان في دوائر عينيه الصغيرتين... وكان قد فاح عطرٌ أخاذ انبعث من جلدها، وهبَّ نحو عنان كعاصفة ياسمين ونار فراح للحظات يمارس هذيانه مع عينيها الجميلتين ونزل إلى كل ملامح وجهها وفمها وجسدها بشكل سريع وهناك استوقفته لاصقة بيضاء على صدرها الغضّ كتب عليها بالعبرية اسم "عنات"... قال في قلبه احفظنا يا رب من عنات وعنّات عنات!!
قطعت ذهولَه بصوتها الناعمِ النَّغمِ وقالت: سيدي العزيز، عند دخولك المجمّع التجاري وحينما تشتري المسلّيات فكّر بالجنود عند الحدود الذين يضحّون بأنفسهم من أجل أمنك وسلامتك واشترِ كيسا إضافيا، إن أردت أن تتبرع لهم بشيء جميل، وان لم تشترِ المسلّيات ففكر بهم واشتر لهم كيسا من المسليات، فنحن نجمع كل ما يتبرع به الزبائن عند خروجهم من المجمّع لنرسلها للجنود في العيد.
هزّ عنان رأسه بالإيجاب ورسم بسمة على شفتيه لتقابل بسمة "عنات"، ودار في ذهنه كل السيناريو الذي مرّ به مع "عنات" الأخرى وشعر بالغضب للحظات تائهة، غير أن ابتسامة "عنات" هذه ونعومتها كسرت لديه بعض زجاجات من العطر ونثرته فوق جرحه فلسعه وأوجعه جدا ولكن فاح ذاك العطر من حوله كما العصافير ترفرف وتحمله إلى جنة فيها عنان و"عنات" وأكياس كثيرة من المسليات ليرسلها إلى الجنود... الذين يحمون الحدود! والذين يجرّدونه من ملابسه وإذا اقتضى الأمر من وجهه! ليصير في لحظات بحالات تحوّل ميتافيزيقية إلىVIP كما الحال في التفتيش في المطار حين ترافقه موظفة حتى باب الطائرة! ويصير مواطنا في لحظات النشوة المبطنة بحاجة ما، ويصير إرهابيا ويصير عدوا ويصير صديقا ويصير "عربيا جيدا" ويصير دون هوادة كل "الصيرورات"! لكي تدغدغ أذنيه، بعد ساعات من الإذلال المبطن بالاهتمام، كلمات اعتذار: "نحن نفعل هذا من أجل سلامتك"! ويجلدونه الجلدة بعد الألف علنًا وسرًّا تباعا للظروف والمزاج كحالة من الانفصام أو حالة نفسية غير معرّفة بعد لهذا الكيان!
دخل عنان المجمّع وراح في نشوة مؤقتة حين شعر بحريته كمواطن عادي عندما دفع العربة داخل المجمّع واشترى حاجياته، ثم راح في متاهة الرفوف الكثيرة المعلقة بكل الإغراءات، وتاه بين رفوف تفكيره لينتشل تعريفا لذاته وحاوره ضميره الوطني والإنساني والاجتماعي وحاول أن يأخذ من الرفوف شيئًا يسد حاجته، وحاول أن يجد تفسيرا لنفسه في تلك اللحظة التي يمد يده ويتناول كيس الفستق ليضعه في السلة ليقدّمه للجنود.
قرر عنان أنه سيشتري كيس الفستق من أجل عيون "عنّات" التي تاه بها في المدخل... ثم قرر أنه لن يشتري كيس الفستق لأن "عنات" "جلدته" في ال- "محسوم"، ثم قرر أنه سيشتري الكيس ليشعر بمواطنته التي يعترفون بها هنا في هذا المكان، فلينتهز الفرصة ويعطي مساحة لهذه المواطنة بمشاركته بأمر إنساني، فهو لم يشترِ بندقية ولم يرسل مالا للجنود الذين سيضربونه أو سيهينونه إنما يرسل كيس الفستق الذي لا تتعدى تكلفته عشرة شواقل. نعم فهو يحمل بطاقة هوية إسرائيلية ويدفع الضرائب التي تفرضها الدولة ويلتزم بقوانين الدولة التي تجلده متى تشاء وتدلّلـه متى تشاء وتناديه باسمه متى تشاء وتشتمه متى تشاء وتدخل معه السرير متى تشاء وتضاجعه متى تشاء... وتلك كلها يعيشها في يومياته كجزء من تركيبته النفسية الثقافية، كيف ممكن أن يكون الأمر إن لم يكن كذلك؟ بالذات بانعدام البدائل!
"نعم سأشتري كيس الفستق وأقدّمه للجنود (قال في نفسه)، فقط لأن "عنات" هذه كانت لطيفة معي وليدركوا أنني لطيف جدا إذا تعاملوا معي بلطف، ليروا وجهي الإنساني والمعطاء، رغم الإحباط سأريهم درجة مواطنتي، نعم سأشتري كيس الفستق وأعطيه ل- "عنات"".
أخذ الكيس من الرف واختار عدة تعليلات من رفوف ذهنه ليمنحه تشريعا وراحة لضميره، وخصوصا أن ذاته ترفض ذاته، و- "عنات"، على الأقل، تقبله في هذه المعادلة. خرج من باب المجمّع ونظر إلى السلة الكبيرة التي جمعها الجنود ليضيف عليها كيسا آخر، لكنه لم يرَ "عنات" هناك فتردّد من أن يضع الكيس، لأنه يريد أن ترى "عنات" أن جهدها لم يذهب سدًى واعتقد أن هناك علاقة خيالية بين هذه ال-"عنات" وتلك ال- "عنات"، وكأنه يريد أن يقول لها: "أترين انتمائي والتزامي أترين كم أنا مواطن!" وِفق تدريجٍ زئبقي للمواطنة! فذهب ليضع الحاجيات في صندوق سيارته ونظر مرة أخرى إلى الجنود في مدخل المجمَّع فرأى "عنات" قد عادت... حمل كيس الفستق وركض نحوها ووضع الكيس أمامها فوق الكم الكبير من الأكياس، نظر الجنود إليه بوجوه جامدة للغاية ولم يتفوهوا بكلمة! أما "عنات" فشكرته على نحو بارد جدا: "تودا" وذهبت نحو زبون آخر يدخل المجمَّع، ولا يهم من هو بتاتا، فالكل هنا يكون تحت مظلة "مواطن" في هذه الحالة... ذهب عنان وفي رأسه دوامة استفهام ومهرجانات من التناقضات بين ذاته المستقلة وذاته المنكوبة ومرة أخرى يجد نفسه يحتفل في مساحة لا تنتهي من ذاته بشتى الشتائم، وشتم نفسه وبلده وشتم الجنود والدولة وشتم العرب وربيعهم وكل فصولهم وشتم أعضاء الكنيست العرب في مدارات مراهقتهم وانتفاعهم بعيدا منه وراح يقهقه عاليا... في نشوة الفراغ الذي يفرضه الازدحام والهرب والعدم في مساحات ال- "كتارزيس" وفي سكرة حواس "غَيهَبَتْها" ودوَّختها التعريفات والغيبيات.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net