سونيا والمجنون ...كل هذه الثقوب!/بقلم:راجي بطحيش

كل العرب
نُشر: 01/01 15:41,  حُتلن: 13:47

دخلت دار سينما "الناصرة" القديمة مؤخرا، مرتين خلال شهر واحد، في أول مرة لمشاهدة فيلم "عمر" –جديد هاني أبو أسعد وهو إبن الحي (حينا) الذي تقع فيه السينما القديمة المجددة، ولم يتح لي الإكتظاظ والجلوس على أدراج دار العرض المكسوة بالسجاد الجديد، أن أمارس هوايتي المحببة والآخذة بالتفاقم نحو غد مجهول، ألا وهي خلق حالة حنين مزمنة من كل شيء وإقناع الذات أن كل ما كان في الماضي كان أجمل (دون تفسير مقنع لذلك)، وأما المرة الثانية فقد كانت هذا الأسبوع عندما اصطحبت إبني لمشاهدة مسرحية راقصة من إنتاج المركز الذي يدار هناك. في هذه المرة جلست على ما يسمى "البلكون"، قبالة الشاشة تماما بخط مستقيم، بالضبط في المكان الذي كنت أجلس فيه عندما كان أبي يصطحبني معه إلى السينما التي كانت مكان عمله، حيث كان يملك المقصف التابع لدار العرض والذي كنا نسميه "البوفيه"، وكانت آخر مرة أدخل فيها هذا المكان هي في العام 1986 لمشاهدة فيلم " التقرير" لدريد لحام، حيث كان جهاز العرض يلفظ أنفاسه الأخيرة وقد تعطل الشريط عدة مرات وسط صفير الشبان المعدودين على الأصابع، لا زلت أذكر رائحة البول واختفاء رائحة الفشار والخيار المخلل (لا أعرف لماذا كانت ممرات المكان تعبق برائحة الخيار المخلل والشراب الإصطناعي المحلّى).


بدأ العرض الإيمائي الراقص، ولكنني وجدت نفسي أتأمل إبني المنغمس في الأشكال الملونة المبهرة وحركات الراقصات والراقصين ثم أتحول لأبحلق في تلك الشاشة الوهمية التي يعلو مركزها أجساد الراقصين بكثير وذلك في محاولة نابعة عن رهان ذاتي، بأن استحضر من وعيي مشاهد لم تغب عنه أصلا، هي أولى التداعيات وآخرها، الملفت أن تلك التداعيات جاءت من نفس المصدر أو من نفس الفيلم بتعبير أصح. لم يخطر على بالي مثلا فيلم (أفواه وأرانب) أو (بعيدا عن الأرض)...بل فيلم واحد مرعب، قاتم، تفكيكي بامتياز...فها هي صورة العجوز المرابية أم غريب التي لا أسنان لها والتي تكسو التجاعيد ملامح وجهها بعنف، ومن ثم ها هو الساطور (ساطور محمود ياسين) ينهال على رأسها فينفلق رأسها إلى نصفين، كما أستحضر مشهدا عجيبا يظهر فيه وجه نظيم شعراوي (ملك الأدوار الثانية آنذاك) وهو يظهر من وراء قضبان مهترئة لنافذه حدودها واضحة جدا ويجلس عليها طفل أشقر غاية في القذارة والبؤس، ينظر الى الضيف بلا مبالاة...كما استحضر فجأة صوتا، إنه صوت حياة قنديل (ممثلة اشتهرت في عقد السبعينيات ثم اختفت بظروف غامضة بعدها) أو لواحظ البنت الخرساء والتي تصرح عن ضنك حياتها وتعاستها ورغبتها بصوت مزعج ويمزقك في آن، حتى أنني أذكر جيدا أن على منديلها التي تضعه على رأسها هنالك ثقبين دلالة على البؤس، ينفر منهما بعضا من شعرها المجعد، أما سونيا (نجلاء فتحي) فيحمل منديلها ثقبا واحدا فقط، وذلك قبل أن تزيله عندما تنطلق إلى عملها المتمثل في بيع جسدها لرجال قاهرة 46 وذلك كي لا يموت إخوتها من الجوع والقذارة..آه وهنالك الثقوب التي لا تحصى على منديل الأم المريضة بالسل والتي تبدو كالجدة المشردة التي تنتظر فرصة للانتحار وقتل جميع من معها في البيت. كما أنني أذكر ثقبا آخر كبيرا على السروال الطويل لعماد حمدي وهو يرقص في ماخور "مانولي" وقد بذر معظم ما حققته ابنته سونيا في مضاجعتها لرجال المدينة...أو وحوشها كما كانت توصفهم وهي تتكسر بأنوثة هشة وثمالة غير واعية لذاتها على أرصفة المدينة التي لا ترحم.


إذا هذا هو الفيلم الذي يحضرني.. فلنقلها بكلمات أبسط هذا هو أول فيلم أشاهده في حياتي بل يخزنه وعيي. يا للروعة..كل هذه القتامة النافذة.. كيف تتركون طفلا في السادسة من عمره يشاهد هذه الـ..المجزرة...لا عجب أن حياتي تبدو كما هي عليها الآن (حياتي؟؟!!) وأنني أتلذذ بكل شكل تعبيري قاتم وغائر في سوداويته!
في اليوم التالي أهرول سريعا إلى صديقي المخلص..أقصد اليوتيوب، أشاهد الفيلم المنسي "سونيا والمجنون" من إنتاج عام 1977 وإخراج حسام الدين مصطفى وهو مأخوذ عن "الجريمة والعقاب" لدوستيوفسكي، الغريب في الأمر أن لا مسافة كبيرة بين ما نسجته على الشاشة المتخيلة لطفل السادسة وبين ما شاهدته بعدها بألف عام والملفت أيضا أن الفيلم بحد ذاته متقن للغاية وبفنية عالية جدا، لا عجب أنني تذكرت الكادرات إلى هذه الدرجة، كما أن صناعه لم يقوموا بتدمير الروح الأدبية والفلسفية للعمل كما هي الحال في ثنائيات نجيب محفوظ وحسن الإمام وغيرها الكثير... والأغرب من هذا كله أن مخرج الفيلم هو صاحب أسوأ مجموعة من الأفلام في تاريخ السينما المصرية بأسره.
يقول الرائع محمود ياسين الساعي لإنقاذ نساء المدينة من مصائرهن المحتومة، في نهاية الفيلم: "ألف ألف سونيا وأنوار ولواحظ، ألف ألف أم غريب..مش حيخلّص الناس دي كلها من العذاب إن واحد يعمل نابليون ولا إن واحدة تنقتل أسمها أم غريب".. تعود سونيا في النهاية إلى الشارع إلى نقطة الصفر ذاتها... ألا يذكركم هذا بشيء!

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة