أماني منصور خلايلة في مقالها:
"كرشحو" هو الأمل الذي سيق لإنارة الطريق وتبصير المتقاعسين عن أداء عملهم بإتقان هو العين الثالثة التي لا تفتأ ترسل وميضا خافتا أو قويا لإرجاع المارقين إلى جادة الصواب
كرشحو... يقف مفاخرا أنه سليل أسرة نجيبة ما انفك القوم يذكرون أفرادها بكل خير فهو يذكر على ألسنة الأتقياء والعابدين حيث يذكر اسمه في غير موضع أثناء تأديتهم لبعض العبادات
أشد ما تعافه نفس كرشحو هو الفن الهابط الذي يتكسب صاحبه من وراءه فهو شخصيا عرضت عليه أحمال مما لذ وطاب من المنتجات الغذائية المحلية لا المستوردة لقاء كتابة قصيدة لحدث مغمور يتعامل مع الهابط والمبتذل من الكلمات
عزيزتي القارئة عزيزي القارئ، هذه بضعة صفحات خطها قلم فياض، يسكب حمما، و يذوب حرقة على ما آلت إليه بعض المجتمعات الإنسانية. ما سيأتي من ملح، أو نوادر، أو نقد علني كان أم مبطن، ما هو إلا لظى ولهيبا قذف بها القلب، بعدما أدرك أن في المجتمعات الإنسانية ما ومن يسير عكس المعهود والمطروق، متخذا طرقا غير اعتيادية ولا معتادة في تسيير دفة العمل. إن فصل "كرشحو" يعد خلاصة للكثير من تصرفات الرعاع من البشر، رغم حصولهم على شهادات عليا، مع الأسف. هذا الفصل من الكتابة لا يخص منطقة جغرافية بعينها، إنما هو رصد لتصرفات عالمية، وربما محلية كذلك، يقوم بها أناس لا يراعون ضميرا أثناء تأدية أعمالهم. فشخصية "كرشحو" هي الرمز اللطيف، والمحبب، والعزيز على كل قلب، والذي يؤلمه تردي أوضاع تصريف الأعمال على وجه هذه البسيطة. هو الضمير القابع وراء النفوس البشرية، والتي تتحكم بها المصالح والمحسوبيات، والتدليس في العمل. "كرشحو" هو الأمل الذي سيق لإنارة الطريق، وتبصير المتقاعسين عن أداء عملهم بإتقان. هو العين الثالثة التي لا تفتأ ترسل وميضا خافتا، أو قويا لإرجاع المارقين إلى جادة الصواب. ففي نفس كل شخص منا، وفي عقله الباطن نسخة من ضمير "كرشحو" تنير بصيرته نحو إتباع ما يتوجب اتباعه. إن وجدت قصص في فصل "كرشحو" تتطابق مع تصرف ما، أو نهج ما في أي بقعة من العالم، فهذا إثبات أن ما ذكر موجود على أرض الواقع. وليعلم بأن ما في بطن هذا الفصل لا يخص الجميع، إنما هو خاص بفئة أو شريحة من أي مجتمع على هذه الأرض انحرفت عن جادة الصواب والطريق المستقيم.
رمز القوة والجبروت
كرشحو كرشحو... اسم لكائن حي قريب جدا من قلوب البشر. حباه المولى جل وعلا بطلعه بهية وعيون ساحرة، رجلاه رمز للقوه والجبروت، فما أن يطلقهما في الهواء حتى يصبح خصمه أثرا بعد عين. عقله يوزن جبلا، فلا يكاد يخرج من معضلة حتى يستدعى لحل أخرى، يتفانى في كل أمر يتطلب مهارة ذهنية لتفكيك أي مسألة تقف حجر عثرة في طريق البشرية. لا يكل ولا يمل، فالمسائل الرياضية هي لعبته ومجال لهوه، فقد عشق المواد العلمية منذ الصبا، حيث أطنب مدرسوه في الثناء عليه لدرجة أنه كان يعطي دروس تقويه للطلبة الضعاف الذين يكبرونه سنا، فكيف به لو دخل مدرسة رسمية؟ فعندها لن تتحمل تلك المدرسة زخم عقله ونباهته، فهو بركان يتفجر طاقة ويقذف حمما في كل اتجاه. كرشحو... لم تحظ أي مدرسة بشرف التحاقه بها البتة، أما هو فكان لا يعترف بوجود أي مؤسسة أكاديمية إطلاقا، ليس غرورا، بل لضعف ما تقدمه تلك الصروح لمنسوبيها على الرغم من الخسائر المادية الباهضة التي تصرفها عليها الجهات المختصة، فقد شاهد بأم عينه ضعف المخرجات، ولهذا قرر ألا يلحق أيا من أبناءه بأي صرح علمي لئلا يتلوث عقله بسفاسف الأمور التي لا ترقى للإبداع. هو مدرسة بحد ذاته، صقلته الحياة والخبرات والتجارب ومجالسه العلية من القوم، كانت نصيحته للجميع "إذا فاتتك المدارس، فعليك بالمجالس" كون المدارس لا تؤدي دورها التنويري أصلا، فهي قد فاتت الجميع. يقف المرء حائرا أمام هذا العملاق، وغير مصدق لما يراه ويسمعه من حكايات وقصص ومهارات عن مخلوق كان قدره أن يكون الخادم الأمين لكل بني البشر في كل بقاع العالم. فلو حاول- ولو مرة- تقليد بني البشر وأمسك قلما ليخط أمرا ما، لسقط القلم من يده مهابة وإجلالا، وربما حياء. كيف لا وعلمه يفيض فيض الأنهار على جوانب الحياةـ كيف لا وقبضته الحديدية كفيلة بهرس قبضة أقوى مصارع في الكون. فطالما تدخل لفض اشتباكات بين المتخاصمين، والنتيجة أنه الغالب على الدوام.
سيرة معطرة
كرشحو... يقف مفاخرا أنه سليل أسرة نجيبة ما انفك القوم يذكرون أفرادها بكل خير، فهو يذكر على ألسنة الأتقياء والعابدين، حيث يذكر اسمه في غير موضع أثناء تأديتهم لبعض العبادات، ناهيك عن ذكر سيرته المعطرة في بطون التاريخ وغياهب القصص. تراه يصول ويجول بين أروقه المؤسسات التعليمية كلها، من رياض الأطفال ابتداء وحتى أرقى الجامعات، فهو منبع للتربية والعلم والحكمة. يدخل قاعة الدرس -على الرغم من عدم حمله لأي مؤهل أكاديمي- وقد هضم مادته تماما، ثم يبدأ بسكب علمه الصافي في جوف كل متلق. يبهر طلابه بأسلوبه الشيق، وكلامه العذب، ومنطقه المبهت لكل من يجرؤ على الدخول معه في المناقشة. الطلاب في أقصى حالات الاستنفار الفكري، فلا تجد طالبا يلهو بهاتفه النقال أو نائما أو مشتت الذهن. كل العيون والعقول والوجوه والأنوف والذقون مصوبة تجاه هذا العملاق، فما أن ينهي المادة المقرر نقاشها حتى يتنحنح ويخرج من شنطته مادة من تأليفه هو. يقرؤها قراءة جهرية سليمة وخالية من أي عيب لغوي أو نحوي. تراه – والدرر تتهاوى من فمه- يتمايل طربا ورقصا لروعه الحالة التي يعيشها. وكلما انتهى من وصلة صفق له الحضور، حتى أن البعض يقف إعجابا أثناء التصفيق. ويستمر في الأداء ملهبا حماس الحضور حتى ترى كل أفراد المجموعات الأخرى من دارسين ومتلقين وحتى من مدرسين، قد تجمهروا على نوافذ الفصل وبابه . نعم، إنه مثلهم الأعلى فعليا وعمليا لا نظريا فقط.
نبراس القوافل التجارية
كرشحو... يبتسم ويهش ويبش في وجوه الحضور ويبادر بالتحية وتقديم الخدمة والنصح لمن يشاء، سواء أكان المتلقي كبيرا أم صغيرا. يدرك في قرارة نفسه أن عليه تعليم وإرشاد من ضل من البشر- وما أكثرهم- لأن زكاة العلم نشره. لا يعترف لمخلوق بفضل عليه البتة، فخالقه هو نفسه خالقهم، وكلهم أولاد تسعة. يدرك تماما كنه مكانته في هذه الحياة، فله الفضل بعد المولى على بني غير جلدته. فالتاريخ يثبت بالبرهان القاطع أنه النبراس الذي تهتدي به القوافل التجارية. ألا يقدم خدمة مثلى لبني البشر ليقود العشرات، بل المئات من سفن الصحراء وتوصيلها لبر الأمان؟ أحيانا يمازح الحضور ويضاحكهم دون أن يفقد وقاره، فهو دائما يبدي لهم أسمى آيات الود والإحترام. نعم إنه يحترم الجميع ويحبهم من صميم قلبه، لا ينافق ولا يزدري أحدا البتة. أحيانا يخرج من مهجعه المتواضع ليهيم على وجهه فتقوده رجلاه إلى إحدى المزارع في ملكوت الخالق ليقتات الصحي من الطعام الذي طالما روج له في مقابلاته مع الغير، فهو يبغض الكلسترول والضغط والسكري ويبغض سائر أمراض العصر. يعتبر من طليعة مشجعي منتجات الطبيعة: يأنس بها ويشرب من ينبوعها العذب، وهو في قرارة نفسه يعترف بأن العقل السليم في الجسم السليم، وهذا لا يتأتى إلا بالغذاء الطبيعي الذي لم تلوثه أيدي البشر وتعبث في جيناته. الكل يحسده على بنيته وتناسقه وعافيته، وهو يعرف ذلك، ولكنه يلجأ إلى طقوسه الخاصة به لتحصين نفسه.
قوة خارقة
كرشحو... تقوده رجلاه خارج الحمى السكني، فيرى العشرات من بني البشر يتصايحون ويهدد بعضهم بعضا بالضرب وكسر الرأس. فهذا يقدم رأيا ما وذاك يسفهه، وهذا يأتي بفكرة وذاك يلعنه ويصمه بأقبح الصفات والأسماء، لدرجة أن أحد الخصوم نعت خصمه بـ " الحما....."! فلم يصدق كرشحو ما سمعته أذناه، فترفع عن الخوض في هذا الأمر والتمس للمخطئ عذرا. إنه دائم التمثل بالقول: "إن بني البشر مساكين، ولا بد من التدخل لحل ما ينغص عليهم معيشتهم". فبادرهم بحل أذهل الحضور وأفحمهم، إذ طلب من أحد أبناءه –وهو لم يبلغ الحلم بعد- بالسير من أسفل الجبل إلى قمته ليثبت للمهندسين من البشر أن شق الطريق لأعلى الجبل ممكن لمن لديه الفكر النير. فتبعه ذوو الإختصاص خطوة خطوة وهو يسير بطريق لولبية حتى وصل إلى قمة الجبل، وعندها هتف الجميع بحيات كرشحو وأبنائه النجباء، وتعانق الجمع ولعنوا الشيطان الذي أوقد نار الفتنه بينهم، فلولا لطف الله تعالى ثم سياسة كرشحو الإحتوائية لاشتعلت بينهم حرب أمر وأقسى من حرب البسوس، أو داحس والغبراء، ولقضى بعضهم على بعض، وربما انقرض جنسهم. كرشحو ... طالما تباهى كرشحو، وحق له، بقوة جسده الخارقة، فهو تباه محمود بدرجه امتياز، فهو المبادر على الدوام بتقديم الخدمة، إنه يعين القوم على حمل ما يثقل كاهلهم، بل والبعض يعتلي تلك الأحمال طلبا لراحة الجسد، وكرشحو يؤدي الأمر بجدارة واقتدار.
إشارة انسانية
وللأمانة العلمية، فقد شاءت الأقدار أن يزور قريته سائح أجنبي، فذهل من قوه كرشحو الجسدية الخارقة وقدرته ليس على حمل الأثقال فحسب، بل رفعها. وبناء على توصية من هذا الرجل الكريم، فقد أدرج اسم كرشحو على قائمة المشاركين في الميادين الرياضية، وهو الوحيد الذي سيشارك في عدة رياضات عنيفة كالملاكمة، والكيك بوكسينج، والرفس المنفرد والجماعي. "سأعمل كل ما في وسعي للفوز بأغلى الميداليات لأرفع الجباه والرايات خفاقة عالية" هكذا أردف. شارك واحتك بلاعبين من الدرجة الممتازة وظفر بكل الجولات بالضربة القاضية، ومن الجدير بالذكر أن عددا لا يستهان به من المتحدين اعتذروا عن المنازلة بعدما أطلق كرشحو وابلا من الرفسات على بطل العالم المحترف في الكيك بوكسينج، حيث أعلنت وفاته داخل الحلبة إثر تحطم جمجمته. كسب الميداليات الذهبية، وربما لو كانت هناك ميداليات أرفع من ذلك لاستأثر بها. إنه الآن يشار إليه بالبنان لتفوقه على جميع المتحدين. وهنا إشارة إنسانية لا يفوتني ذكرها، وهي قيام كرشحو بتقديم النصح لشاب يافع بالعدول عن النزال المزمع عقده بينهما. انصاع الشاب لتلك النصيحة وعدل عن المنازلة. اغرورقت عينا كرشحو من الفرحة والتجأ إلى إحدى زوايا الحلبة ومسح دمعة حرى متمتما: "الحمد لله الذي أعتقه لوالديه وإلا فجعا به".
بصيرة ثاقبة
كرشحو... يفخر بأنه الوحيد الذي حباه الله ببصيرة ثاقبة وبعد نظر، يسمع ما لا نسمع ويرى مالا نرى. فمهما تطورت الحياة وتقدم العلم ووسائل النقل فإنه الأبقى دائما. فتمت إعادته إلى الخدمة في بعض المناطق الجبلية لجلب الماء من الآبار والصعود بها إلى ذرى القمم ليروي ظمأ العطشى من بني البشر. كل ذلك يتم حين انقطاع الكهرباء وخذل التكنولوجيا للبشر. ولأول مرة في التاريخ يعفى كرشحو من سن التقاعد لأنه – وبعد التجربة- يبقى كالأمل، في حاله توقد سرمدية. فطالما ذكر حاجة البشر إليه وتفضيله على بعض وسائل التقنية الحديثة. فشعاره في هذا المجال "أمة بلا ماض.. أمة بلا حاضر". فهو صديق للبيئة ولا يستهلك بترولا، لا خال من الرصاص ولا سوبر ولا حتى عادي. إضافة لذلك، فهو لا يعمل بالبطاريات سواء جافة أم سائلة، والأهم من ذلك أنه عديم الحوادث ومسالم ويمكنه التكيف مع أي بقعة من بقاع هذا الكون، في العراء، تحت المطر، في الشمس الحارقة. ..الخ. إنه فعلا يصلح لكل زمان ومكان. كرشحو... يقرض الشعر، ويحيي أمسيات تهم جميع أطياف المجتمع، ولكن فئته المستهدفة هي النخبة، حيث تتدافع وتتسابق لتحظوا برشفات من معين شعره. يكتب الشعر للكبار، –نساء ورجالا- وللصغار وللمطربين من الدرجة الممتازة، فهو لا يغامر بإرثه الأدبي التنويري إلا إذا ضمن أن المتلقي يقدر ذلك ويثمنه. فكثيرة هي الطلبات التي رفض حتى مجرد مقابله أصحابها لأنه، وبكل تواضع، لا يقدم قصيدة لمن لا يقدر الطرب الأصيل، ويسهر على النهوض به وتجويده.
الفن الهابط
أشد ما تعافه نفس كرشحو هو الفن الهابط الذي يتكسب صاحبه من وراءه. فهو شخصيا عرضت عليه أحمال مما لذ وطاب من المنتجات الغذائية المحلية، لا المستوردة، لقاء كتابة قصيدة لحدث مغمور يتعامل مع الهابط والمبتذل من الكلمات، ولكنه رفض رفضا قاطعا وقال: "تموت الحرة ولا تأكل بثدييها، فلو أن ابني طلب مني ذلك ما لبيت طلبه". يتدخل في صياغة ألحان معظم أغانيه ويصر على سماعها من المطرب الذي وقع عليه الإختيار قبل بثها على الملأ. إنها سمعته وفنه وليس على استعداد للمتاجرة بهما أو المساومة عليهما. إنها تربيته الأصيلة. كرشحو ... تراه في مراكز اتخاذ القرار، يعلق وينتقد وبكل أدب جم يبدي راية الفصل. فيثني عليه الحضور ويتمنون له العمر المديد له ولأبناءه وأحفاده من بعده، لأنهم نبراس هذه الحقبة من الزمان. أحيانا يعلق على كلامهم بابتسامته المعهودة بأن بني جلدته هم أطول المخلوقات عمرا، فيزداد حب وتقدير الحضور له بقولهم: "كثر الله من أمثالك" فيطمئنهم بأن أمثاله كثر وهم يملؤون الأفاق. كرشحو... لا يهدأ له بال ما لم يطمئن على كل مريض أو مصاب. كأنه هو المتألم الحقيقي لما لديه من عواطف وشفقة تجاه كل عليل. يجوب عنابر المرضى، يجس نبض هذا ويتأكد من درجة حرارة ذاك، ويلاطف هذا ويضاحك ذاك. وهو أول من أطلق مبادرة فصل الجنسين في المراكز الصحية، لحنكته وبعد نظره. فأحيانا يتنكر بثياب بسيطة ومتواضعة ويدخل مستوصفا صحيا لأخد دواء ما دون وصفه طبية، ودون مراجعة طبيب، فيفشل أحيانا وينكشف أمره، وينجح أحايين كثيرة.
نفس طويل وعميق
كرشحو... يجوب الفنادق ويجالس عليه القوم ويتجاذب معهم أطراف الأحاديث الودية، وربما الرسمية، ثم يشق طريقه إلى صالة الأفراح في لفته ذكية للاطمئنان على المادة الفنية وقيمتها. إنه مستمع جيد ولديه المقدرة على تمحيص الكلمات المغناة والألحان، ويتدخل بأدب، وربما صدح بصوته المخملي العذب، فيتمايل الحضور ويسألونه المزيد، فيعتذر بأقصى درجات الأدب لأن وراءه حفلات أخرى تخضع للتقويم والتمحيص. فلما يرى الحضور الفرق الشاسع بين أداء كرشحو وأداء المطرب المستأجر في تلك الصالة فسرعان ما ينهالون عليه بالشتائم وبالنقد اللاذع طالبين منه المتتلمذ في مدرسة كرشحو للإبداع الفني أولا. تقوده قدماه، فيدخل عرسا آخر، فيشارك العازفين مقطوعاتهم ويبزهم. تراه يعزف على جميع الآلات الموسيقية، كل الآلات لأنه تدرب عليها بالفطرة ولامست شغاف قلبه سحرا أثناء وحدته التأملية. أما أقرب الآلات إلى قلبه فهي الناي. نعم إنها الآلة الوحيدة التي تتماها وتنصهر في أحشائها مهجته ونفسه ونبضه وحياته كلها، لأنها تعتمد على طول النفس، وكرشحو هو ملك النفس الطويل والعميق. لقد قيض له المولى تعالى منحة للخارج للتبحر في عالم الموسيقى. تردد في البداية، وأخيرا وافق بهدف الإحتكاك بالثقافات الأخرى من ناحية، ولأن الفن، وخاصة الموسيقى، ليس لهما حدود. وبعد أسبوع واحد فقط، عاد كرشحو من بلاد الغربة لأنه، وبكل بساطة، وجد نفسه يضيع وقته عبثا مع أناس ما زالوا يتعاملون مع الأبجديات الأولى مما يعرفه من علم غزير في هذا المجال.
أدب وخلق
كرشحو... إنه قمة في الاتيكيت ومعاملة الآخرين. يحترم الجميع ويمنحهم ثقته ويترفع عن صغائر الأمور وتوافهها. له جمهور ومريدون على امتداد هذا العالم الرحب والفسيح. هو مثلهم الأعلى في المنطق والبيان وحسن التخلص من موضوع والولوج بأخر دون تشتيت ذهن السامع. يأكل بأناقة ويشرب العذب والطاهر من الماء، وتراه بعد كل وجبو يخرج من جيبه الخلفي علبة خضراء تفوح منها رائحة البرسيم، فيؤثر الحضور على نفسه أولا، ثم يأخذ نصيبه منها. تسبقه ابتسامته بأسنان ناصعة البياض ويقدم لهم العلكة بانحناءة تنم عن لطف وأدب جمين. يهمس البعض قائلا: "فعلا ظلمناك، فيا ليت عندنا الحد الأدنى مما تتحلى به من أدب ودماثة خلق". يحمل حقيبته السوداء، واضعا معطفه الكحلي على ذراعه الأيسر، يصعد سلم الطائرة فيتيقن المسافرون أنه كرشحو. فهذا يخرج هاتفه النقال، وذاك يخرج كاميرته، وآخر قلما وورقة لتوثيق الأمر وأخذ صورة لهذا العملاق. تمتلئ الطائرة ويومئ المضيفون للركاب بأن الإقلاع وشيك وعليهم التأكد من ربط أحزمة الأمان وإبقاء المقاعد في وضع عمودي. يتبادل المسافرون النظرات، علهم يعثرون على صاحب المعطف الكحلي، ولكن هيهات. فيخيم صمت رهيب على الوضع فلا يبدده إلا صوت الربان قائلا: "المسافرون الأعزاء، هذا الربان كرشحو يتمنى لكم رحلة سعيدة". عندها، تغمر المسافرين فرحه عارمة ويحمدون الباري عز وجل على أن هيأ لهم هذا الربان الفذ، لأن أرواح الخلق ليست بالرخص الذي يتوهمه البشر.
مواقف طريفة
كرشحو... تراه في كل ساحة وباحة، يشارك الحشود مجلجلا بصوته ومطالبا بحقوقهم قبل حقوقه. فهو، للإنصاف، يؤثر الآخرين على نفسه حتى لو لم يحصل هو شخصيا على أي شيء من حقوقه. يستمر في الهتاف دون كلل أو ملل ثم ينفض السامر، فيعود لمهجعه منشرح الصدر حامدا الله تعالى على أن قيض له هذه الفرصة للمطالبة بحقوق بني البشر. ربما برجوعه المتأخر هذا تفوته وجبه العشاء، ولكن شعاره دائما بأن المخلوق يأكل ليعيش ولا يعيش ليأكل. وهذا الشعار قلما يؤمن به أحد غير بني سلالته. إنه يدرك في قرارة نفسه بأنه محبوب ومطلوب من قبل الآخرين. فأحيانا تخطر بباله أفكار معينة ومواقف طريفة فيبتسم ويطلق أحيانا قهقهات عالية. ففي إحدى الليالي الماطرة، حيث كان يهيىء نفسه للنوم، قال كلاما يعتبر بمثابة دستور حياة له ولبني جلدته جميعا. قال: "مسكين من يدعي ويظن أنه ولي أمري هنا، فأنا نفسه الذي يتنفسه، وحياته التي يحياها. ثم ضحك قائلا: "حتى مخلفاتي يتسابق عليها ليزيد خصوبة أرضه. فمن منا سيد الأخر وولي أمره؟ حتى الحليب الذي تنتجه إناثنا هو الأقرب، وربما البديل للحليب الذي تنتجه إناثه هو. رحم الله امرءا عرف قدر نفسه".
محبة وألفة
كرشحو... يهتم برشاقة جسمه وحسن قوامه، فهو يأكل بمقدار ويشرب بمقدار لأجل الحفاظ على ذاك القوام الجميل، لدرجة أن إحدى دور عرض الأزياء قدمت له عرضا للمشاركة في عرض الألبسة والترويج لبعض العطور التي تتعامل معها وبالمبلغ الذي يريده. لبى الدعوة، ليس لأجل المال، إنما لأجل الجماهير العطشى لرؤيته. لاقى العرض استحسان الحضور جميعا حيث اشترى كل محتويات تلك الدار في وقت قياسي. ولأن نواياه صادقة، وبعد تبرعه بما جناه من ذلك العرض، فقد انهالت عليه العروض من جميع دور الأزياء قاطبة، فأخبرهم بأنه لا يعدهم، ولكنه سيفكر في الأمر. كرشحو... يبذل قصارى جهده في مساعدة وإسعاد الآخرين، سواء من بني الجلدة أم من غيرها. فمن باب أولى أن يرعى ويهتم بالمقربين منه، من ذوي القربى والصلة. فلم يشهد ولم يسجل التاريخ أن كرشحو استغاب أو بهت أو وشى بأحد من أبناء جنسه وأسرته الممتدة. فإذا ما صادف أحدا من بني عمومته، شعر وكأنه امتلك العالم بأسره. كيف لا وبعض بني البشر يتربصون بهم الدوائر لدرجة أنهم يقدمون لحومهم الزكية الطاهرة وجبات في أفخم المطاعم في فنادق السبع نجوم. فأشد ما يخشاه كرشحو هو انقراض أعدادهم. فالحب الذي يكنه لإخوانه ومحبيه من بني جنسه، يجعله يعانقهم ويبكي على أكتافهم محبه واشتياقا، بل يصر على استضافتهم في مهجعه المتواضع ليقدم لهم الماء والكساء والطعام. فطالما أخذ عناوين من هم في الغربة وديار المهجر ليتواصل معهم لحضهم على الألفة والمحبة. وبلغ بكرشحو الآمر أنه من مدمني الاستماع لبرنامج إذاعي محلي بعنوان "أبناؤنا في الغربة". لا يريد من بني الجلدة ابيض ولا اصفر، فكل ما يريده هو التئام الشمل والمحبة فيما بينهم حتى يبيضوا وجهه أمام باقي الخلق.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net