في السابع من تشرين الثاني 2011 رحل عنا إلى الرفيق الأعلى الشاعر د. سليم مخولي، من كفر ياسيف، فوفاء له أعيد اليوم نشر قراءتي لقصيدة له كنت نشرتها في كتابي "قصيدة وشاعر". نابلس: دار الفاروق- 1996، ص 16-23.
والقصيدة التي قمت بقراءتها هي: "وزغردت أم الشهيد":
القصيدة:
"زغردت أم الشهيد" بقلم: د. سليم مخولي
من ديوان: ذهب الرمال (1989)، ص50
هل كان عرسًا للضياءِ
فزغردت أم الشهيد
أو أنها في يقظة تتوهم؟!
أفراحُها هذي!
أو أنه حزنها خلفَ الضلوعِ
وصيحةٌ في صمتها
فتفجرت بجنونها تتألم...
أو كان صوتًا صاعدًا شق الفضا
وحجارة من قلبها
ترمي الطغاة وترجمُ...
مرّ العريس أو الشهيد أو النشيدُ
على الأكف مكللاً بالوردِ
أم ذاك الدّمُ؟!
أين اللغاتُ
وأين حسنُ بيانها
وبلاغة ومشاعر
وتراجم لشعورها فتُترجِمُ
زغرودةٌ صماء تجتاح السما....
والله أصغى واجمًا
والأفق أحمرُ واجم..
سقط الشهيدُ
فزغردي يا أمّهُ
ضمي الجميع بصيحةٍ
فالنصر نصْرُك أمنا
ما غير صوتك للجراح مضمِّدٌ ويُلملم...
قراءة في القصيدة:
هذه القصيدة هي فرحة الشاعر التي تبادل حزنه من خلال الضوء والحركة واللون. فعرس الضياء تقابله زغرودة، والزغرودة تحمل رائحة الوثيقة. وليست القصيدة أكثر من وثيقة كتبها شخص معين في زمن معين وفي موضوع معين كما تقول (إليزابيث درو). وزغرودة الشهيد ذات دلالة اجتماعية تأصلت بالذات في الشعب الفلسطيني، حيث ارتبطت شهادته بالنصر، فأصبح "عريسًا" للأرض، ولا بد أن يكون في ذلك الخصب والفرح.
تقع القصيدة في ثلاثة مساقات:
المساق الأول- تساؤله عن معنى زغرودتها: هل كان عرسًا للضياء؟ أفراحها هذي؟ أو أنه حزنها؟ هل هو تفجر بجنونها؟ أو أنه حجارة من قلبها لرجم الطغاة؟ والتساؤل يستمر في وصفه العريس أو الشهيد أو النشيد، وهل الحمرة عليه أكاليل ورد أم أن ذاك الدم؟
المساق الثاني- تأكيد على عجز اللغات عن ترجمة معنى الزغرودة التي اجتاحت السماء، فأصغى لها الله واجمًا، وتلون الأفق بالحمرة، ووجم هو كذلك.
في المساق الثالث- يطلب الشاعر من أمه أن تزغرد وتضم الجميع بصيحتها، فهي أم لنا جميعًا، والنصر لها أولاً، وعندما تزغرد فإنها تضمد جراحنا الكثيرة، وتجمعنا على النضال والمثابرة حتى النصر. إذن فالقصيدة ملتزمة تطرح القضية من خلال مداخلة الشاعر وموقفه المتعاطف. فلننظر إلى هذه القصيدة ككل قطعة فنية متسائلين:
ماذا يمكن أن يضيف الشاعر؟
ماذا يمكن أن يحذف حتى تكون القصيدة أجود؟
وبالطبع، فإن في هذا التساؤل اقتحامًا، وقد يكون تجاوزًا وذاتية، إلا أن الرعاية والتشذيب لضروب المقدرة الطبيعة هي مهمة النقد.
كانت القصيدة ترتقي إلى مستوى فنّي أعلى لو وصف الشاعر الجزيئات، فوقف عند حركات الأم قبيل زغرودتها وفي أثنائها وبعدها، فعن طريق التكثيف في الحركة والأداء يستطيع تعبئة الجو بالحزن وشحنة بالمأساوية.
وكانت القصيدة ترتفع لو تخلى الشاعر عن المباشرة والنثرية في بعض الأبيات كقوله:
"أو أنها في يقظة تتوهم".
فما ضرورة التساؤل عن كونها في حلم يقظة أو لا؟
ألا ينُقص التساؤل من صورة عرس الضياء التي غرسها الشاعر في مخيلاتنا رائعة مثيرة؟
ثم يسأل الشاعر "أين اللغات؟ وأين حسن بيانها وبلاغةٌ ومشاعرُ، وتراجمٌ لشعورها فتترجِمُ؟"
كل هذه التساؤلات ينقصها التكثيف والرهافة.
ولست أدري بعد ذلك ما ضرورة التأكيد على كلمة "صماء" في قولته "زغرودة صماء" ما دامت الزغرودة تحمل معاني عميقة وثرية ومتنوعة؟
إن لفظة "صماء" كانت متماثلة مع قوله في المساق الأول "وصحيحة في صمتها" ....والصمت والصمم في الزغرودة، وربما الإصرار والثبات، ولعل هذا الغموض أو الإصرار يستلزم البحث عن ألفاظ مطابقة أكثر لهذا المعنى المستفز.
وثمة ملاحظة إملائية طباعية:
فقد ورد في الديوان:
أفراحها هذي
أو أنه حزنها خلف الضلوع"
وأظن أن الطباعة حذفت النقطتين من الهاء ،حيث يمكن أن تكون:
" أفراحها هذي
أو أنة حزنها خلف الضلوع".
وبالطبع فإن معنى " أنة" يتساوق والزغرودة، ويؤدي صوتًا ولونًا وعاطفة....ولعل هذا ما أراده الشاعر.
أسلوب القصيدة والتحامه بمضمونها:
أشرت إلى أن القصيدة تقع في ثلاثة مساقات. وفي ظني أنه يمكن أن نبدل المساق بالآخر من غير أن تتخلخل بنية القصيدة، ذلك لأن الوحدة العضوية فيها نفسية بالدرجة الأولى. ثم أن الشاعر كان يعـيد صياغة التعبير المألوف بتطعيمه استعارات ومجازات لها علاقة بموقفه: فالصوت يصبح حجارة من قلبها، والحجر منتزع من الأرض، إذًا فالأرض هي القلب. وترجُم الطغاة المحتلين. وكلمة "ترجم" لها دلالات هامشية تتعلق بالأبالسة والشياطين والشر. ولعل الروعة في القصيدة أو قمتها عندما يصغي الله –جل جلاله- واجمًا، والأفق أحمر واجم، فالشاعر هنا يُنكر هذا الموقف، يكون بشيء من السخرية، وقد يكون بشيء من الأمل ....وكأنه يقول بنوع من الأمل الذي لا يخيب: "ولو يارب!"
واللون الأحمر للورد والدم في قوله:
" على الأكف مكللاً بالورد أم ذاك الدم"
يطغى على الأشياء فيجعل كذلك أحمر، والزغرودة حمراء ، وصوت الأم يضمد الجراح الجماعية، ويلملم الجموع للنصر.
قلت إن هذه الاستعارات والمجازات لها علاقة بموقفه:
فكيف تبدّى لنا الشاعر من وراء الكلمات نابض القلب رافضًا؟
إننا نلمح ظل الشاعر يشف من وراء قوله:
" ضمي الجميع بصيحة
فالنصر نصرُك أُمنا"
"الجميع" و "نا" دلالتان واضحتان على أنه ضمن الجماعة يحس فجيعتها ويصبو لسعادتها. ثم إن تساؤلاته على طريقة تجاهل العارف فيها إحساس عميق وتلوين مأساوي:
مرّ العريس أو الشهيد أو النشيد.
على الأكف مكللا بالورد
أم ذاك الدم؟"
وقبل ذلك، هل زغرودة أم الشهيد هي:
أ) عرس للضياء؟
ب) فرحة أم أنة؟
ج) صيحة متفجرة بجنونها تتألم؟
د) حجارة من قلبها ترمي الطغاة وترجم؟
إنّ هذه التساؤلات هي للراوي، وهي تفسير لموقف بالدرجة الأولى. في القصيدة ميزة هامة- وهي التوافق الموسيقي، وانتقاء اللفظة، فنجد تكرار الحروف يجعل القصيدة ذات بنية إيقاعية:
" وصيحة في صمتها فتفجرت بجنونها تتألم أو كان صوتًا صاعدًا".
نلاحظ الصاد والجيم يزيدان الموقف روعة وجلالاً وشدّة، ثم لتقف على التجانس الصوتي وحرف المد وكأنه ينشج:
"مر العريس أو الشهيد أو النشيد". وقراءة أخرى تتركز على الناحية الصوتية توصلنا إلى تكرار حروف أخرى تتناغم والأداء النفسي، غير أن القافية الميمية المضمومة تتردد فيها بشكل إيقاعي، وقد شذت فيها لفظة "واجم"، فلم يكن رويّها موافقًا لقوله: تتوهم.. وترجُم ويلملم. وأخيرًا فإن في هذه القصيدة مثلاً على الدم والخيال والفكر في القصيدة، والشاعر هنا هو الشاهد والواعد.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net