النائب الشيخ إبراهيم صرصور في مقاله:
ليس أمام الشعب الفلسطيني من بديل إلا أن يتوحد فالخصم موحد على ثوابته والعالم قد قرر منذ زمان التخلي عن قضيته
لم أعد اخرج من حساباتي امكانية ان كثيرا من زعماء العرب والعالم كانوا يتمنون موت هذا الزعيم في حينه حتى يتخلصوا من هذا الثقل الاعتباري الذي شكله
ما دامت إسرائيل بهذه القوة فقضاياها هي المنتصرة حتى وإن كانت المهددة الاولى للأمن الدولي والاستقرار العالمي كما جاء في استطلاعات الرأي الاوروبية
عرفات رمز لقضية يعيش الأغلب الساحق من ابنائها وبناتها لاجئين في مختلف البلاد والاصقاع يغرقون يوما بعد يوم في جوف الواقع المجهول والمستقبل المجهول وسط زحام وأزقة المخيمات واوضاعها المزرية
ماذا قدم العرب والمسلمون الذين احرجهم عرفات كثيرا في حياته للقضية الفلسطينية وهم يرونه يقود شعبه من خلال (علبة) المقاطعة المحطمة ومن وراء اكياس الرمل التي ملأت مداخل مكتبه خوفا من اقتحام اسرائيلي مفاجىء؟!!
بعد أن صدر التقرير الطبي حول استشهاد الرئيس الراحل ياسر عرفات والذي يؤكد وفاته بفعل مادة ( البولونيوم ) القاتلة، فقد تحقق ما جاء على لسانه كأمنية تحدى بها العالم، أعني تلك الكلمات التي ليس كمثلها ما يمكن أن يلخص حياة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات – رحمه الله - ودبابات الاحتلال الإسرائيلي وطائراته وجنوده، تحاصره في المقاطعة أثناء حرب ( الجدار الواقي ) الإسرائيلية على الضفة الغربية المحتلة العام 2003، تلك هي كلماته التي رددها من غرفته المظلمة إلا من أنوار شموع في المقاطعة في تلك اللحظات الملحمية : ( يريدونني أسيرا أو طريدا أو قتيلا، وأنا أقول، بل شهيد، شهيد، شهيد. ). كم كشفت وفاة الرئيس الراحل ياسر عرفات ¬رحمه الله¬ من الوجوه الشائهة الكالحة، وكم عرّت من سياسات زائفة بائسة.. كم يخشى من مواقفه وهو تحت اطباق التراب زعماء وزعماء، احرجهم الى حدّ الاسطورة في شموخه وصموده وثباته على المبادىء مهما كلفه ذلك من ثمن، أحرجهم في حياته لأنهم كانوا إلى جانبه أقزاما هزيلة، وإن حملت هياكلهم اجسام الفيلة، فهم أجساد. مجرد أجساد، تقتات على دماء الشعوب، مجرد كُتل من النزوات والشهوات المرتمية في أحضان الدنيا الزائفة بلا أحلام، وبلا طموح، تعيش في مستنقعات الدنيا وإن سكنوا القصور وتحركوا بسيارات الليموزين...
زعيم صاحب هَمٍّ وَهِمَّة...
لم يكن عرفات¬ - رحمه الله - من هذا الطراز من الزعماء، وما كان له أن يكون كذلك..لأنه رمز لقضية يعيش الأغلب الساحق من ابنائها وبناتها لاجئين في مختلف البلاد والاصقاع، يغرقون يوما بعد يوم في جوف الواقع المجهول والمستقبل المجهول وسط زحام وأزقة المخيمات واوضاعها المزرية، يحملون همّ (الخيمة) الاولى فيما رمزت اليه من ضياع وطن وارض ومقدسات، وهموم اجيال ما زالت تنتظر لحظة العودة على أحرّ من الجمر في مواجهة العواصف العاتية من النكران العربي والاسلامي والعالمي، وتخلي المجتمع الدولي، الا من فتات لا يسمن ولا يغني من جوع، مجرد ذر للرماد في العيون، ومحاولة لتخدير المشاعر، وتزييف الحاضر والمستقبل ارضاءً لنزعات العدوان الامريكو¬- إسرائيلي الطاغي والمنفلت.
ما كان لعرفات أن يكون من ذاك الطراز المزيف من الزعماء، لأنه يقود شعبا، كثيرا ما من اطلق عليه صفة " الجبارين"، في اشارة الى ذات الشعب الفلسطيني الذي وقف امام الغزو اليهودي الاول..
كان عرفات واعيا تماما لهذه الثنائية وابعادها ورأي الاسلام فيها، الا انه تعمّد استعمال هذه الصفة الدالة على الصلابة والقدرة على الصمود والثبات وتحمل الأعباء مهما ثقلت، خصوصا وقد مزجت بتكريم الاسلام لهذا الشعب، وتعظيم الدين لهذه الارض التي جعلها الله سبحانه ارضا مباركة، وكتب ان تظل ارض رباط، ومستقر الطائقة المنصورة الى يوم القيامة..
حرج في حياته كما أحرج بعد وفاته...
مهما اختلف الناس مع عرفات وهو حي في كثير من القضايا، فلا أرى أن أحدا يختلف في أنّ لرحيله المفاجىء اثره الكبير على كل الاصعدة.. فكما احرج الدول والزعماء في حياته، وحير الافكار والعقول في صموده وعناده واصراره على تحقيق الآمال الفلسطينية دون تفريط في اي من الثوابت الفلسطينية، فقد كشف بالقوة ذاتها عن حقيقة الموقف العربي والعالمي حيال مستقبل القضية الفلسطينية.. لم أعد اخرج من حساباتي امكانية ان كثيرا من زعماء العرب والعالم كانوا يتمنون موت هذا الزعيم في حينه، حتى يتخلصوا من هذا الثقل الاعتباري الذي شكله، الى درجة يخاف معها رئيس الوزراء البريطاني الأسبق وممثل الرباعية الدولية توني بلير، أن يضع إكليلا من الزهور على قبر عرفات أثناء زيارته منذ سنوات لعرين هذا البطل لبحث مبادرته الفجَّه لدفع عملية السلام في الشرق الأوسط .
حضور لم يُلْغِهِ الموت
لقد نجح عرفات¬ - رحمه الله -¬ وبجدارة بعد وفاته، ان يحول الكرة الى ملعب اعدائه واصدقائه على حد سواء، دول الاستكبار العالمي رأت فيه العقبة الكأداء في وجه تمرير مؤامرة التسويات، في الوقت الذي رأت في ( شارون ) حينها صاحب التاريخ الأسود المعروف، بطلا للسلام (وماما تيريزا ) جديدة، لم يستطع عرفات في حياته أن يُقنع العالم بخطأ هذا الموقف، لسبب بسيط وهو أن عرفات لم يجد من الانصار العرب والمسلمين والدوليين من يجرؤ على ان يقول لامريكا وإسرائيل : لا، عرف العالم أن إسرائيل وسياستها هي سبب الازمة وأساس المشكلة، وهذا ما ثبت بشكل قاطع في السنوات الأخيرة، إلا أن لإسرائيل حليفتها الكبرى، ولاسرائيل قوى الضغط اليهودية وحلفاؤها من التيارات المسيحية المتطرفة. ولإسرائيل أخيرا أجهزتها الأخطبوطية الغنية المدافعة عنها في كل ميدان وفي اغلب بقاع الدنيا وخصوصا في المناطق المؤثرة في العالم، رغم أن ( نتنياهو ) رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي ليس أكثر من ( كذاب ) وشخص ( لا يطاق ) في نظر ( ساركوزي ) الرئيس الفرنسي السابق، ( وأوباما ) الرئيس الأمريكي، وذلك حسبما التقطته ميكروفونات مؤتمر الدول العشرين في فرنسا قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة .
ما دامت إسرائيل بهذه القوة، فقضاياها هي المنتصرة، حتى وإن كانت المهددة الاولى للأمن الدولي والاستقرار العالمي كما جاء في استطلاعات الرأي الاوروبية.. لم يكن هنالك بدّ اذاً من اجل قلب الصورة من أن يموت عرفات حتى تنكشف الحقائق، من غير أن نعلق آمالا كبيرة على تحرك عالمي وعربي واسلامي يستثمر هذه التغيرات لتعرية السياسة الاسرائيلية والامريكية، واثبات أن العقبة في وجه السلام العادل والشامل في الشرق الأوسط، والسبب المباشر لما يسمى بالارهاب في العالم، هي اسرائيل وسياساتها الوحشية، وامريكا ومواقفها العدائية لكل ما هو عربي واسلامي، هذا فعلا ما يليق بعرفات البطل.. إن له دور في حياته، كما له بعد رحيله، انه من النوع الذي لا يكل ولا يملّ، لا بد ان يظل في صلب الحدث...ولا بد أن يحرك الخيوط حتى ولو من تحت اطباق التراب...ماذا فعل العالم بعدما رحل عرفات، وزالت العقبة كما زعموا؟!! ماذا قدم العرب والمسلمون الذين احرجهم عرفات كثيرا في حياته للقضية الفلسطينية، وهم يرونه يقود شعبه من خلال( علبة) المقاطعة المحطمة، ومن وراء اكياس الرمل التي ملأت مداخل مكتبه خوفا من اقتحام اسرائيلي مفاجىء..؟!! سنوات مرت على وفاته – رحمه الله -، وذهب بوش بكل أرجاسه، وجاء أوباما. ووعد أوباما، فضغطت إسرائيل فلم يصمد زعيم أمريكا الجديد وانهار عند أول امتحان لسياسته. سنوات عجاف أثبتت بشكل قاطع أن أمريكا وإسرائيل لا يريدون شريكا لسلام حقيقي، وإنما يريدون ( عميلا ) يخدم مصالحهم وينحر القضية الفلسطينية من الوريد إلى الوريد باسم الشعب الفلسطيني ونيابة عنهم. لم يكن عرفات هو المشكلة فقط، ولكن الحقيقة أن كل فلسطيني يقف على رأس الهرم السياسي الفلسطيني ثم هو يصر على الحقوق والأماني والثوابت الفلسطينية، يشكل هو أيضا مشكلة يجب أن تُزال. يتساوى في ذلك عرفات وأبو مازن وإسماعيل هنية وغيرهم.
لو أن الله قدر للأموات ان يتكلموا ولعرفات¬ رحمه الله¬ ان ينطق وهو في نعشه، لقال لمن نظم له الجنازات المهيبة يوم وفاته : لا أريد تلك الاستعراضات وبالذات على ارض عربية، ولا اريد احدا ان يسير في جنازتي، ولا ان يشارك في وداعي، اريد العودة السريعة الى احضان وطني وشعبي كم تمنيت ان تكونوا معي في حياتي، وأن تقفوا مع شعبي في محنته كما يقف الاخوة الاشقاء، لم تفعلوا وقد كنتم وما زلتم ترون ما يُفعل بي وبشعبي، وما يرتكب في حقه من جرائم وفظائع، لم تفعلوا شيئا ذا بال، مع شكري الجزيل لكم على ما قدمتم لشعبي من فتات موائكم وفوائد أرصدتكم !!!
لقاءات وذكريات
في كثير من اللقاءات التي جمعتنا بعرفات -¬ رحمه الله -¬ منذ عودته الى ارض الوطن وحتى قبل وفاته بفترة وجيزة، لمست الألم الذي يعتصر قلبه على الواقع الذي تعيشه القضية الفلسطينية، لأسباب نعرفها جميعا، إلا أنه وللحقيقة ما سمعته يوما ينتقد من اسماهم ( بأشقائه العرب)، بل ذهب مرة الى حد الدفاع عنهم، على اعتبار أن هذا ما يقدرون عليه في ظل الظروف والتعقيدات التي يعيشونها، رغم ذلك، ما كان صعبا علينا فهم ما بين الكمات، لقد كان الرجل يرزح تحت همّ كبير ملأ قلبه، وأكل احشاءه، لا شك عندي في أن الانظمة العربية والاسلامية شريكة الى حدّ كبير في (قتل أمل عرفات) وجاءت العوامل الأخرى لتهدّ الجسد بعدما مات الأمل، فهل سيقتل العرب والمسلمون قضية فلسطين، بعدما قتلوا الامل في قلب قائدها ؟!!!حينما كنا نسأله عن السر في صموده رغم كل ما يلقاه، كان يقول :( الله سبحانه وتعالى ووعده النافذ، وأملي في أن يشرفني الله سبحانه ببناء اللبنه الاولى في مدماك فلسطين المحررة، مسرى الرسول صلى الله عليه وسلم ومهد المسيح عليه السلام )، لقد كان يتحدث بحب لم اعرفه في غيره عن الشعب الفلسطيني، والذي شكل بعد الله سبحانه الرافد الذي أمدّه بالطاقة المطلوبة على استمرار الصمود في ظل ظروف غاية في القسوة والخطورة، قال لنا يوما وهو يصف علاقته بشعبه في ظل صورة الصراع العامة:(انظروا الى هذا الشعب البطل كم يعاني، وكم يضحي في سبيل كرامته ووطنه ومقدساته، فكيف لي أن اشكو، .سعادتي في ان اتحمل في هذا المبنى/المقاطعة، شيئا ولو يسيرا مما يعاني منه شعبي، هذا الشعب الذي شرفني بقيادته، واكرمني بتمثيله، ان كان هنالك الكثيرون ممن يطالبونني بالاستسلام، فادير لهم ظهري.. لا أفعل ذلك الا لانني ارى شعبي وهو على ما هو عليه من الاصرار على الحق مهما كلفه ذلك، فكيف يمكنني الا ان اكون مع شعبي في خياره ).
إن النصر مع الصبر...
أثناء حديثنا في احدى اللقاءات مع الرئيس الراحل عرفات¬ - رحمه الله -¬ والذي كان حديثا ابعد ما يكون عن الاحاديث الرسمية، واقرب ما يكون الى احاديث الأهل(وسواليفهم)..فتح جارور مكتبه وطلب منا ان ننظر فيه..كان الجارور مليئاً بأنواع الادوية، قلنا:ما هذا، ولم كل هذا الدواء ؟؟! قال:(من يحمل هم ّهذه القضية بحق في ظل الظروف التي تعرفون، ستثقل عليه الامراض، ولا بد ان يحتاج لهذا الكم من الادوية).. دار بعد ذلك حديث طويل، اكدنا فيه على أعظم الدواء الذي يحتاج اليه الفلسطينيون قيادة وشعبا حتى تحقيق الحرية والاستقلال، وهو(دواء الصبر)، لأن الصبر قرين النصر كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم:(اإن النصر مع الصبر وان الفرج مع الكرب وان مع العسر يسرا)...
شهيد من طراز فريد...
لقد سمعنا عرفات ¬- رحمه الله -¬ كما سمعته كل الدنيا، يتحدث عن الشهادة في سبيل الله، ونذكر جميعا ما قاله في خضم الهجمة الشرسة التي شنها عليه وعلى الشعب الفلسطيني جيش الاحتلال الاسرائيلي فيما سمي حينها بعملية(الجدار الواقي)، لقد اقتحم عليه جيش الاحتلال المقاطعة، ودمروا كل ما فيها، ولم يبق هنالك الا البناء الصغير الذي يسكنه ويدير شؤون السلطة الوطنية منه، قال حينها:(يريدونني سجينا، او طريدا، وانا اقول :شهيدا، شهيدا، شهيدا، ).
لقد تأثر كل من سمع هذه الكلمات، وكان لها أثرها الحزين في قلوبنا ايضا، رغم ما اعتقده البعض من أن هذه الكلمات جاءت في سياق رفع معنويات الشعب الفلسطيني ليس أكثر، انحزت الى احساسي الشخصي في هذا الشأن. لقد عنى الرجل كل كلمة قالها، لن يعطي إسرائيل فرصة لتشريده من جديد، وقد عاد الى وطنه، لن يمنح إسرائيل الفرصة لالقاء القبض عليه وتقديمه للمحاكمة، كما كان يطالب بذلك عدد كبير من حلفاء شارون وقادة عسكره، لقد استعد الرجل للشهادة في سبيل الله سبحانه دفاعاً عن فلسطين، دفاعاً عن القدس والأقصى، دفاعا عن وطن الآباء والاجداد.. دفاعاً عن الحق المغتصب، ودفاعاً عن الكرامة والشرف. كان هذا شعوري حيال(اعلان الشهادة)الذي اصدره الرئيس الراحل، تأكد هذا الشعور في احدى زياراتنا الاخيرة اليه في المقاطعة، لاحظنا وجود سلاحه الشخصي الى جانبه دائما. مركوزا في مكان قريب في متناول يده، سألناه مازحين: ما القصة يا سيادة الرئيس؟ فأجاب مراعبا: ( الموت ولا المذلة)!... لقد اخذ رحمه الله في حساباته اسوأ الاحتمالات، ووطّن النفس على الاستشهاد اذا ما اضطره اعداؤه الى ذلك، الا ان الله سبحانه شاء ان يموت شهيدا على فراشه، رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، ..
جاءت الأحداث بعد وفاة عرفات وإلى هذا اليوم، تحمل رسالة واحدة : ليس أمام الشعب الفلسطيني من بديل إلا أن يتوحد، فالخصم موحد على ثوابته والعالم قد قرر منذ زمان التخلي عن قضيته. عرفات في حياته وموته يجسد هذه الرسالة : لا تنخدعوا في قريب أو بعيد، فوحدة الشعب وإيمانه بالله ثم بثوابته، هي بوابته إلى المستقبل الواعد، ولو بعد حين.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net