عبد الرؤوف أبو شقرة في مقاله:
الأصل في المسلم إن أراد خلع معصية تعاوده دائما أن يعرف أي أمراض القلب أصابه باطنا ليرتكب المعصية ظاهرا ولا بد أن يعرف السبب الذي سهل له الوصول إلى المعصية
من كان يعلم أنه يضعف عند رؤية الخمر فلا يذهب إلى مجلس فيه خمر ولا يقول لا بد أن يكون إيماني قويا لدرجة أن أراها ولا أشربها فإن النفس تسوّف التوبة حتى لا تتوب
من الطبيعي أن يضعف الإيمان فتفتر الأعمال لبرهة من الزمن ولكن يجب المحافظة على الحد الأدنى الذي لا تنزل عنه والحد الأدنى لعامة المسلمين هو فرائض الله ومحارمه فإن كنت معتادا أن تصلي بخشوع فوجدت إيمانك يضعف فلا أقل من إقامة الصلاة بحدودها
السؤال:
كيف يتوب الانسان عن المعاصي والكبائر وكيف يعرف هل قبلت توبته ؟
وهل اذا كان العاصي يصلي ويحاول التقرب لله وهو مقيم على المعصية ولم يتركها بعد يكون مرائي ؟ — مع محمد اماره وعبد الرؤوف أبو شقرة.
الجواب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه ..
الأصل في المسلم إن أراد خلع معصية تعاوده دائما، أن يعرف أي أمراض القلب أصابه باطنا، ليرتكب المعصية ظاهرا، ولا بد أن يعرف السبب الذي سهل له الوصول إلى المعصية، كمن ألم به مرض، فلا يمكنه السؤال عن الدواء قبل معرفة الداء وسببه، فهذا أصل مهم وعظيم.. ثم إن عرف سبب المعصية فليسارع في قطعه ومنعه، فإن الدواء إن استعمل وسبب الداء لا زال ممتدا إليه لم ينفع، وإن نفع عاد إليه مرة أخرى، فسيكون نفعه قليلا، وجدواه عليلا..
على سبيل المثال يعاني كثير من الشباب من مشكلة انجذابهم للمحرم في الشبكات أو التلفاز رغم بغضهم لذلك، وندمهم بعد ذلك، فإن بحث المرء عن حاله قبل المعصية، وطريق سلوكه إلى أن يستقر فيها، فإنه سيجد أن ابتداء الوسوسة واشتدادها يبدأ عند خلوه في البيت، إذ ينفرد الشيطان بغرائزه، ويسيطر على حبائله، ثم يدفعه لفعل مباح قريب من معصيته، فإذا اقترب أغراه وأمله بالحياة والمغفرة، فإذا به بحالة ضعف يقع بحبائله. فليبادر إذن وهو أعلم بأحواله وظروفه أن يمنع الخلوة نفسها، وأن يترك المباح الذي يكون سلما للحرام، ولا يضع جل تركيزه في مقاومة المعصية عند وقوعه بها، فإنه حينها ضعيف لا جند له، بل اقطع سببها وتغيير الطريق الموصل إليها أيسر..
ومن كان يعلم أنه يضعف عند رؤية الخمر، فلا يذهب إلى مجلس فيه خمر، ولا يقول لا بد أن يكون إيماني قويا لدرجة أن أراها ولا أشربها، فإن النفس تسوّف التوبة حتى لا تتوب، والإيمان يضعف فيها ويقوى، لذلك منع الله الخمر، ومنع الاقتراب منها..
وكذلك من استوثقت حبائل قلبه بفتاة كان يشاركها حديثا "بريئا" على شبكات التواصل، فزين لهما الشيطان أعمالهم وأغراهما، وشرّق بخيالهم وغرّب، فما ذلك إلا لغفلة كانت في المطلع، فليحذر ولا يقل فإنها قريبتي، أو نقصد أمرا دعويا، فإن هذا من تزيين الشيطان، وتزيينه أسباب الإثم مع القريب أسهل من تزيينه مع البعيد، لذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" فقال أحدهم: "أرأيت الحمو يا رسول الله؟" أي قريبة الزوج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت" أي أشد خطرا..
والعلاج قبل الذنب، أهم وأولى منه بعدها، وكما قيل في المثل الشعبي "أبوي بجبر الإيد المكسورة، فقال له: أبوي بجبرها قبل ما تنكسر" أي خذ الحيطة لنفسك وأبنائك قبل الوقوع بالمعاصي.
ثانيا اعلم أن من الطبيعي أن يضعف الإيمان فتفتر الأعمال لبرهة من الزمن، ولكن يجب المحافظة على الحد الأدنى الذي لا تنزل عنه، والحد الأدنى لعامة المسلمين هو فرائض الله ومحارمه، فإن كنت معتادا أن تصلي بخشوع، فوجدت إيمانك يضعف فلا أقل من إقامة الصلاة بحدودها، وقد يكون للفرد حد أدنى أعلى من ذلك فيعزم أن لا يترك وردا له مهما فتر، فكل امرئ يتفرس حاله، ويرسم لإيمانه حدا لا ينزل عنه، يتلائم مع طبيعته.
ثالثا لا ينبغي أن يتسلل القنوط إلى قلب الإنسان ما دام حيا، فمهما فعل وارتكب، فإنك لم تجمع بين عبادة الصنم، ووأد طفلة، وشرب خمر، ولم تعزم على قتل نبي، كما فعل بعض الصحابة قبل إسلامهم، ورغم ذلك تاب الله عنهم وعفا، وجعلهم مبشرين بالجنة، لما صدقوا بالتوبة وأخلصوا بها.
ولذلك لما أراد الشيطان إقناط الصحابي حنظلة رضي الله عنه، وإشعاره بعدم جدوى أفعاله، لأنه حينما يكون عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم فإن إيمانه يعانق أعمدة السماء، وإن رجع لبيته، رجع لملاعبة الزوج والولد، وهكذا وجد أبو بكر في نفسه رضي الله عنه، فقال حنظلة للنبي صلى الله عليه وسلم: " نافق حنظلة" فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم: " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً" أي ساعة في الطاعة، وساعة فيما أباح الله من ملذات الحياة.
رابعا بالمقابل لا ينبغي أن يستخف الإنسان بالمعاصي ويتذرع بالعفو والمغفرة والشفاعة، فإن ذلك مزلة للقدم، ومقتل الإيمان، وتزيين من الشيطان بل ينبغي أن يكون الإنسان مشفقا إلى ربه.
وكن طبيب نفسك فإن حدثتك نفسك بمغفرة الله، وحرضتك للمعصية فحدثها بضعفها واسرح بها حاجتها، ثم خذها إلى عظمة الله وجبروته وأرسالها إلى ذاك المرتع، ثم ذكرها بنعمه عليها، ثم خوفها سوء الخاتمة، وانقلاب الصالحين، وما أكثر تلك النماذج في هذا الزمان، ثم ألق بها في يوم الحساب للتخيله وتتأمله، فإذا بها تذل وتخضع، وتذعر وترعب..
وإن ارتكبت النفس كبيرة أو سوءا فحدثتك بالقنوط واليأس، والعذاب والسخط، وعدم نفع التوبة والاستمرار في المعصية، وترك باقي الصالحات لفسادها بزعمها، فأسكتها، وأعلمها أن الله سبحانه قال في الحديث القدسي: "يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي"، وذكرها أن الله أرحم بنا من الأم برضيعها إن تبنا واستغفرنا، وليذكر ما روي أن رجلا قال: "يا رسول الله أحدنا يذنب الذنب" قال: "يكتب عليه" قال: "ثم يستغفر ويتوب" قال: "يغفر له ويتاب عليه" قال: " ثم يعود فيذنب" قال: "يكتب عليه" قال: "ثم يستغفر ويتوب" قال: "يغفر له ويتاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا" ..
وبادر إلى التوبة والإنابة والخضوع، وألح على الله سبحانه أن يتقبل، وكلما همت بالعودة للمعصية فنغص لذتها باستحضار ما بعدها من الضيق والحرج، وتذكر السؤال والعذاب. فالقلب متقلب متأرجح، فإن هم بالمعصية وتعلق بالمغفرة فروضه بالخوف .. وإن همّ بفعل المعصية واليأس من المغفرة فروضه بالرجاء.. واجعل محبة الله هي المنشط والغاية في كل ما تفعل، لتستمر فيما تصنع. هذه بعض الجوانب المهمة في المعاصي والتوبة، وترويض النفس، ويبقى تعمير القلوب وتعاهدها، ومعرفة أسرار تسلل العلل إليها، وهذا أتركه لمقال آخر إن شاء الله .. بارك الله بك وحفظك من كل سوء..
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net