د. أنس سليمان أحمد في مقاله:
نحسر الإسلام وتطبيقاته إلى دائرة محدودة هي دائرة العبادات والأحوال الشخصية
الإنتاج هو إيجاد المنافع التي تشبع رغبات الإنسان ونستطيع أن نتعرف على رأي الإسلام حول قضية تنمية الإنتاج وتوظيف قوى الطبيعة لخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار من خلال نصوص متعددة أوردها القرآن الكريم
يعيش مجتمعنا العربي وعالمنا والإسلامي على الاستيراد، لا بالنسبة للسلع والخدمات فحسب بل بالنسبة للأفكار والمفاهيم ومن أهمها المفاهيم الاقتصادية. فقد انحسر الإسلام وتطبيقاته إلى دائرة محدودة هي دائرة العبادات والأحوال الشخصية، ولكن العبادة التي ذكرها الله تعالى في قوله {{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ}} تعني انقياد الناس لمنهج الله في كل أمر من أمور الحياة، وهنا فالعبادة لا تقتصر على الشق الفقهي المعروف بالعبادات دون الشق الآخر المعروف بالمعاملات، حيث لا تنفصل المعاملات عن العبادات. ذلك أن القيام على المعاملات في الفكر الإسلامي لا بد أن يكون وفق شرع الله حتى يكون التصرف تصرفاً إسلامياً. فيكون المسلم متعبداً لله في مطعمه ومشربه وملبسه وزراعته وصناعته وتجارته، وفي كسبه واستثماره وما إلى ذلك. ولا يوجد في التصور الإسلامي نشاط إنساني لا ينطبق عليه معنى العبادة، فالمنهج الإسلامي كله غايته معنى العبادة أولاً وأخيراً ، من هذا المنطلق لا بد لنا من إلقاء نظرة على الإنتاج ومفهومه من المنظور الإسلامي، ما هو الإنتاج وصوره في الإسلام، وما شروطه وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي ؟
ما هو الإنتاج؟
الإنتاج هو إيجاد المنافع التي تشبع رغبات الإنسان. ونستطيع أن نتعرف على رأي الإسلام حول قضية تنمية الإنتاج وتوظيف قوى الطبيعة لخدمة الإنسان في مجالات الانتفاع والاستثمار من خلال نصوص متعددة أوردها القرآن الكريم، يقول الباري جلّ في علاه {{ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}} ، كما ويعتبر الإسلام فكرة تعطيل أو إهمال بعض مصادر الطبيعة أو ثرواتها لوناً من ألوان الجحود والكفران بالنعمة التي أنعم الله بها على عباده فيقول جلّ جلاله {{ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }}. ومع ذلك فقد يعتقد البعض أن هذا الموقف تجاه العمل على تنمية الإنتاج، إنما جاء نتيجة لمواقف مسبقة ولتحيز في تفسير النصوص القرآنية لتتلائم مع وجهة النظر السابقة، ولكن يُرَدّ على ذلك بدليل آخر أن الزكاة – أحد أعمدة هذا الدين- لن يتم إخراجها إلا إذا حقّق المسلم إنتاجاً اقتصادياً يسد به حاجاته أولاً ثم يزيد عن ذلك ويتحقق فإن الانتاج أو الدخول، وما دامت الزكاة من العبادات الشرعية التي يقصد بها القرب من الله، فإن العمل المنتج وتوسيع القاعدة الإنتاجية هو أيضاً عمل تعبدي يقبله الله، وقد جعل الإسلام العمل ضرباً من ضروب العبادة ولوناً من ألوان الجهاد في سبيل الله، ذلك أن العمل للدنيا هو العمل للآخرة والعمل للحياة كالعمل في سبيل الله، وكلاهما مصدر الخير والقوة ومناط العزّ في الدنيا وحسن الثواب في الآخرة.
القرآن والصناعة
جاء في القرآن الكريم إشارات واضحة إلى العديد من الصناعات والحرف التي تكتمل بها عناصر الحياة الطيبة ومقومات الاقتصاد للفرد والمجتمع، من ذلك:
أولاً- الصناعة النسيجية والحياكة: قال الله تعالى: {{ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا}}.
ثانيًا- الصناعة الغذائية: قال سبحانه تعالى: {{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}}، وقال أيضًا: {{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}} .وقال سبحانه: {{وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ}}.
ثالثًا- الصناعة المدنية والعسكرية: قال جلّ جلاله: {{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}}. فقوله: (فيه بأس شديد) إشارة إلى الصناعات الحربية، وقوله: (ومنافع للناس) إشارة إلى الصناعات المدنية. وأخبر عن داود فقال: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ}. وقال أيضًا: {{وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}} .. وقال أيضًا: {{وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا}}.
رابعاً- صناعة الغوص واستخراج اللؤلؤ والمرجان: قال الله تعالى: {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} . وقال أيضًا: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ * فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}.
خامساً- الصناعات الدوائية: أشار القرآن الكريم إلى العسل كمادة علاجية يتحقق بها الشفاء، فقال: {{وَأَوْحَى رَبُّكَ إلى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}}.
هذا وقد أولى الإسلام قضية التصنيع أهمية واضحة، فأوجد ألوانًا من الصنائع ما كانت العرب تعرفها، وأمر بعمران هذه الأرض واستثمار خيراتها، قال جل وعلا في كتابه العزيز: {{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}}.
لنا وقفات أخرى بإذن الله مع قضية التصنيع في الإسلام ومع صوره وضوابطه في الاقتصاد الإسلامي.
وفي نهاية هذا المقال نتوجَّه إلى الله بالدُّعاء أن يَهدِيَنا جميعًا سواء السبيل، وأن يجمع على الحقِّ خُطانا، وأن يُعطِيَنا القوَّة للتغلُّب على حالة اللامُبَالاة التي أصابَتْنا، ليس فقط في ديننا، وإنما في سائر أحوال حياتنا.
يتبع ....
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net