أحلام صغيرة - بقلم: جبر أبو السرايا


نُشر: 01/01 14:32

اعتدت كل ليلة على العودة من نفس الطريق في وقت متأخر، منذ أن استلمت عملي في حراسة أحد الأبنية التي يتم بناؤها، ولم الحظ ما يثير الانتباه طوال سنتين من عملي وعودتي من ذات الطريق. لكنني تلك الليلة كنت متعباً جداً، أحاول الإسراع لأصل البيت فأستريح، ومن بعيد وتحت ضوء عامود كهربائي لمحت شبح قزم يجلس إلى حافة الطريق، فأبطأت سرعتي محاولاً التحقق مما أرى، فلم أعتد رؤية كائن حي في مثل هذا الوقت وفي هذا الطريق النائي عن البيوت. حتى السيارات لا تكاد تمر منه في الليل، كنت كلما اقتربت من ذلك الشبح سمعت صوت أنين يكسر صمت الليل. صوت أنين متألم، وصلت إلى تلك الكتلة الملقاة على حافة الطريق، وكان طفل في الثانية أو الثالثة عشرة من عمره، يجلس ماسكاً بطنه بكلتا يديه وهو يتأوه، لكن هنا، وفي مثل هذه الساعة ؟!!
اقتربت منه وانحنيت مسائلاً: ماذا بك ؟!
وبصوتٍ متألم باكٍ قال: أشعر بألم في بطني...
فسألته مستغرباً: وماذا تفعل هنا في مثل هذا الوقت، أين أهلك ؟
فانكمش ونكس رأسه دون أن يقول شيئاً. فهممت أن أمضي في طريقي وأتركه، فلا بد أن وراءه قصة ما، ولا أريد أن أدخل نفسي في مشاكل أنا في غنى عنها، وبالفعل سرت عدة خطوات، لكن صوت أنينه أوقفني، وما شعرت إلا وأنا أستدير عائداً إليه، مددت له يدي وقلت له بصوت المشفق: تعال معي، أعطني يدك.
فنظر إلي مستغرباً: لكن إلى أين يا سيدي ؟
- سآخذك إلى أقرب طبيب، هيا...
ويبدو أن ألمه كان شديدا، فلم يقل شيئاً، بل قام وسار إلى جانبي. فتابعت قائلاً: لم تقل لي، من أنت وأين أهلك؟!
فقال بنبرة حزينة: أنا لا أهل لي.
نظرت إليه مستغرباً وسألت: فأين تعيش إذن، أعني أين بيتك؟!
فهز رأسه يميناً ويساراً، وبذات النبرة أجابني: لا بيت لي.
فابتسمت قائلاً: هل أنت من الفضاء؟
فلم يجب، فسألته: كيف وصلت إلى هنا؟!
فأجاب بصوت هادئ متعب هذه المرة: سيدي، كنت أنام في بيتي، بين أهلي، فجأة استيقظت فوجدت نفسي أفترش الأرض وألتحف السماء كما رأيت.
شعرت وأنا أحاوره أنني أحدث رجلاً قد قست عليه الحياة بما يكفي لتكسبه التجارب. وما هي إلا عدة دقائق حتى كنا أمام عيادة تعمل أربعا وعشرين ساعة، دخلنا وأخبرنا الطبيب عن حالته، وبعد إجراء عدة فحوصات أعطاني ورقة كتب فيها اسم الدواء وقال: يجب على الطفل أن يخلد إلى الراحة في السرير خمسة أيام على الأقل.
وجدت نفسي فجأة أمام معضلة صعبة للغاية، أمسكت الطفل من يده وسرت وهو إلى جانبي، ولم أشعر إلا وأنا أقرع جرس البيت، ولم يمر الكثير من الوقت حتى فتحت زوجتي الباب تنظر إلي تارة والى الطفل تارة. أدركت كم هي محتارة، وعرفت انه لا بد أن أسئلة كثيرة تدور في رأسها الآن، لم اجب عن أي منها، بل دخلت البيت بهدوء ويد الطفل لا تزال في يدي.
وتبعتني إلى الداخل، وانتظرت إلى أن هيأت للطفل مكاناً ينام فيه، وما أن خرجت إليها حتى ألقت علي كل ما في رأسها من أسئلة دفعة واحدة، فقلت لها بهدوء: اهدئي، لنتحدث بهدوء، فجلسنا وسألتني: من هذا الطفل؟!
- لا أعرفه، وجدته متألماً باكياً في الطريق فأخذته إلى الطبيب، ثم أحضرته إلى هنا.
فقاطعتني: وماذا إن كان وراءه مصيبة، أينقصنا مشاكل؟
فقلت بذات الصوت الهادئ وأنا أحاول أن أقوم: وكلي الله يا امرأة، غداً حين يستيقظ سنفهم منه كل شيء.
مضت الليلة وأنا أفكر بالفعل بقصة هذا الطفل، لم أعرف متى نمت ولا كيف، لم استيقظ إلا في الصباح على أشعة الشمس التي اخترقت شباك الغرفة، وبعد أن غسلت وجهي اتجهت إلى الغرفة التي ينام فيها، فلم أجده هناك، بحثت عنه في أرجاء البيت دون جدوى، فتحت باب البيت محاولاً البحث عنه خارجاً، وإذ به يجلس على عتبة البيت، فجلست إلى جانبه بهدوء بعد أن ألقيت عليه تحية الصباح، نظرت إليه أتأمل وجهه، وإذ بدموعه على خديه فسألته عن سبب بكائه، فقال: أريد أن أذهب.
- إلى أين؟!
فلم يجب، بل سكت طويلاً حتى قلت له: يمكنك البقاء هنا، لكن على شرط، أن تخبرنا بقصتك كاملة.
لا أعرف ما الذي جعلني أعرض عليه هذا، ربما براءة وجهه الضائعة وراء دموعه. نظر إلي طويلاً ثم قال بصوت متردد: لكن لدي طلب وحيد.
فسألته مستغرباً: ما هو ؟!
فأجاب بنبرة حزينة: لدي حقيبة قد تركتها في المكان الذي كنت أنام فيه، فهل نذهب لإحضارها؟
وما أن أنهى كلامه حتى كانت زوجتي قد وضعت الفطور، فقلت له: حسناً، نتناول طعام الفطور ونذهب لإحضار حقيبتك.
بعد أن فرغنا من تناول الفطور، قادني معه إلى طريق وعرة تبدأ حيث وجدته في الليلة الماضية، وسرنا بها طويلاً حتى وصلنا شجرة نائية، فصعد على فرع منخفض بعض الشيء، وتناول حقيبة كان قد علقها عليه ونزل، فسألته بعد أن أمسكت بيده ونحن في طريق العودة: ما هذا المكان؟
فقال وهو ينظر إلي: انه بيتي.
لم أفهم شيئاً ولم أسأله، بل سرنا حتى بلغنا البيت وجلسنا في غرفة الجلوس، وكانت زوجتي تطالع برنامجاً في التلفاز، فطلبت منها إغلاق الجهاز، وبعد أن فعلت سألته: ما رأيك الآن أن تقص علينا قصتك كاملة؟
فنظر إلي نظرة المنكسر، كأنني قد وجهت إليه صفعة لم يستطع تحملها، ثم قال بهدوء: كنت كأي طفل يا سيدي، أعيش مع أمي وأبي وأخوتي، أذهب إلى المدرسة كل صباح، وأعود لأقبل يد أمي، كنت أفرح بنجاحي، وكنت أحلم أن أصبح ذات يوم مهماً، وأن أساعد أبي، كان كل شيء جميل قبل بدء الحرب، الحرب التي كانت كيد الموت التي تبطش دون رحمة، الحرب التي أخذت معها أحلامي وأجمل ذكرياتي...
فقاطعته: إذن لست من هذه البلاد ؟
فرفع رأسه إلي وهو يقول: بل من خارج الخط الأخضر، من داخل خط النار، من بلاد الموت.
شعرت أنني أجالس رجلاً لا طفلاً في الثانية أو الثالثة عشرة من عمره، شعرت وأنا أحدثه كأن أحداً يلقنه الكلام. فقلت له: أكمل، أكمل يا بني.
فقال وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة بائسة: كنت أحب أن ألعب مع أخي "ماجد"، الذي يصغرني بعام، ولم أتوقع أن هناك ما يستطيع أن يفرق بيني وبين أهلي، إلى أن أقبلت تلك الليلة التي كشر فيها القدر عن أنيابه، كنت أنام عند جيراننا الذين سهروا عندنا، وعند ذهابهم إلى بيتهم طلبوا من والدي أن أذهب لأنام عندهم من أجل ابنهم الصغير الذي بكى ليظل معي، وبصعوبة بالغة وافق والدي، وما أن انتصف الليل، وخلد الناس إلى النوم، حتى استيقظت على صوت أناس يصرخون، وأصوات عالية جداً، فسمعتهم يقولون إن بيتنا قصف بالصواريخ، وانه تهدم على من فيه، فأبعدوني عن المكان حتى أخرجوا الجثث ودفنوها، فعدت إلى بقايا البيت وبدأت أفتش في الأنقاض، فوجدت بعض صور عائلتي، ولعبة أخي الذي كان يضعها إلى جانبه حين ينام ملطخة بدمائه، لا بد أنه كان يحتضنها تلك الليلة، أخذت الأغراض، واستطعت بعد عدة محاولات فاشلة للهرب الوصول الى المكان الذي وجدتني فيه، بعيداً عن الحرب التي لا ترحم، وعن رائحة الموت.
وبعد أن أنهى كلامه مد يده إلي بالحقيبة، أخذتها وبدأت بإخراج محتوياتها، كانت بقايا ذكريات. صور وألعاب، وبالفعل لاحظت تلك اللعبة الملطخة بالدم، قد جفّ الدم عليها فأصبح لونه قاتماً.
أعدت كل شيء إلى مكانه وأعطيته الحقيبة وقد بدأ يراودني شعور لم أعرفه من قبل، بل كنت أعرفه لكنني لم أشعر به من قبل، أحسست أن هذا الطفل قريباً مني وأنني أريد أن أكون له أباً.
سألته بصوت هادئ: لم تقل لنا ما اسمك؟
فأجاب وعلامات الحزن تكتسي ملامحه: أسمي "أمجد".
فقلت له وأنا أربت على كتفه: حسناً يا "أمجد"، أنت مريض، يجب أن تشرب الدواء وتنام وألا تبرح السرير.
وبعد أن تناول الدواء دخل الغرفة المخصصة من أجله، أما أنا فجلست أفكر بحال هذا الطفل، وفجأة سمعت صوت زوجتي تقول: يا له من مسكين، طفل في مثل هذه السن يفقد أهله؟!!
ثم وجهت حديثها إلي وقالت: ما رأيك أن نتبنى هذا الطفل، فهو بحاجة لمن يرعاه، ونحن بحاجة لأطفال.
فقلت وقد ابتسمت: كأنك تقرئين أفكاري، هذا ما كنت أفكر فيه.
ومضت الأيام، وبدأ الطفل يتماثل للشفاء، وذات يوم أتى إلي وهو يحمل حقيبته بينما كنت أجلس وزوجتي نطالع برامج التلفاز، جلس الى جانبي وقال بصوت مخنوق: سيدي، أعتذر لأني أثقلت عليكم، لن أنسى ما صنعتموه من أجلي أبداً، ها قد شفيت وسأرحل...
فقاطعته قائلاً: والى أين تذهب، أتعود الى التشرد والشجرة؟!
فلم يجبني، فأدركت أنه بالفعل لا يعي إلى أين سيذهب،فقلت له بلهجة واثقة: لن تذهب، بل ستظل هنا، ستعيش معنا، ستدخل المدرسة وتتعلم.
ولأول مرة في حياتي أشعر أنني قمت بإنجاز عظيم، خاصةً عندما رأيت ابتسامة الطفل حين سمع ذلك مني، شعرت أن كل شيء انقلب رأساً على عقب، فبعد أن كنت مجرد آلة تعمل في إطار مغلق، أحسست ان لي كيانا، شعرت أنني أحيا لهدف، بالفعل بدأت أحس بما لم أحس به من قبل. وبعد أن انتهيت من بعض الإجراءات اللازمة بدأ الطفل بالذهاب إلى المدرسة، وعلى الرغم من ذلك فقد كنت أرى خلف ابتسامته الدائمة، دمعة قهر محبوسة، اعتقدت أن الأيام ستكون كفيلة بمداواة الجرح، اعتقدت أنها تستطيع مسح الماضي وخط مستقبل جديد مشرق.
وذات ليلة عدت من عملي ودخلت غرفته معتقداً أنه سيكون نائماً، فوجدته يجلس على السرير وقد أمسك بصورة وأخذ ينظر اليها ودموعه على خديه، اقتربت منه واذ بها صورة أخيه، فقلت له بصوت هادئ: ماذا تفعل؟
فقال وهو يمسح دموعه: لقد اشتقت له كثيراً، أتمنى أن أراه وأن اسمعه وألعب معه ولو مرة واحدة.
فلم أدرِ ماذا أقول، كأن لساني ربط تلك الليلة فلم أقوَ على تحريكه بحرف واحد، أخذت منه الصوره معتقداً انها ستعيده الى الماضي، وأنها ستذكره بما حل به دائماً، وقلت له: يجب أن تنام يا صغيري، فغداً ستذهب الى المدرسة.
فقال ببساطة، كلمات مزقت قلبي: الا يجب أن ينام هو أيضاً ليذهب الى المدرسة؟!
وكأني به يريد أن يقول، من سمح لهم بسلب حقه في الحياة، من أعطاهم حق التفريق بيننا، لامست كلماته لبّ قلبي فلم أجد ما أرد به.
تركته وخرجت ولا تزال الصورة معي، وخلدت الى النوم، وكنت متعباً جداً فلم أستيقظ الا في صباح اليوم التالي على صوت زوجتي تصرخ بذعر، فانتصبت واقفاً وأنا أسألها عما حدث.
فأجابت بذات اللهجة الخائفة: "أمجد" ليس بمكانه.!
فسألت مستغرباً: ماذا تعنين؟!
- انه لم ينم في مكانه، بحثت عنه فلم أجده...
سكت طويلاً أفكر بالمكان الذي يمكن أن يكون فيه، وفجأة تذكرت تلك الشجرة التي كان يعلق عليها حقيبة أحلامه وذكرياته، فقلت لها مطمئناً: لا عليكِ، أنا سأجده.
بدلت ملابسي وغسلت وجهي وحملت الصورة معتقداً أنه غضب لأني أخذتها منه، وسرت باتجاه ذاك المكان، وما أن وصلت حتى لمحته من بعيد يجلس تحت الشجرة متكئا على جذعها، فذهبت اليه وجلست الى جانبه ببساطته، وبعد لحظات من الصمت سألته: لمَ أتيت إلى هنا، ألن تذهب الى المدرسة؟!
فهز رأسه يميناً ويساراً دون أن ينبس بكلمة، فقلت: ألن تعود معي إلى البيت؟!
عندها رفع رأسه الي ونظر نظرة لن أنساها مهما حييت، وقال: أأعيش في بيتك ولا بيت لي، أأعيش في وطنك ولا وطن لي، أأنسى أخي وأهلي الذين فارقوني، أيحق لي أن أعيش وهم موتى؟
ومرة أخرى شعرت بلساني ينعقد، لكني قلت له: لكني أحبك وستكون لي ابناً.
فقال ببساطة وهو يشير الى الشجرة: سيدي، هذه الشجرة لا تبرح مكانها حتى تموت.
ففهمت عليه ماذا أراد أن يقول، لم أعرف بماذا أجيبه، بل أعطيته الصورة، وقمت أسير في طريقي وقد أوقد في داخلي أسئلة لم اطرحها على نفسي من قبل: هل حقاً لي وطن، وهل أعيش في بيتي؟!
أكملت طريقي ولا تزال كلماته ترن في أذني، ولا تزال أحلامه الصغيرة تعيش معي...

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة