د. محمود الخطيب في مقاله:
الفيسبوك أصبح يحتل جزءا كبيرا من حياة الكثيرين ويستحوذ على جزء كبير من أوقاتهم
نجاح موقع الفيسبوك هو لكون الإنسان مخلوق اجتماعي ولديه حاجة ماسة للتواصل مع الآخرين فكان أن الفيسبوك جعل من هذا التواصل سهلا ومجانيا
كان التعامل مع الفيسبوك في البداية أكثر انضباطا الى أن خرجت الهواتف الذكية وسمحت بالاتصال في كل زمان ومكان هنا وقعت المصيبة! أصبح اغراء استعمال الفيسبوك في كل وقت حتى في مقابلة العمل
قبل مدة كنت في مقابلة عمل في مؤسسة عريقة جدا في البلاد، وكان في المقابلة رجل وامرأتان، خلال المقابلة رأيت احداهن وقد كانت تجلس وراء طاولة تنظر الى الأرض ويداها مسبلتين وعيناها تذهبان يمنة ويسرة، وتبسم حينا، وتنظر الي حينا! في البداية لم أتوقع ذلك، فبعد ان رفعت يديها الى الطاولة واذ بين يديها هاتف ذكي، الحقيقة انها كما يبدو كانت تتابع آخر التحديثات في الشبكة الاجتماعية الفيسبوك. بالنسبة لي توقعت كل شيء الا أن يقوم أحدهم بمقابلة عمل ويتابع الفيسبوك.
لقد كانت بداية موقع الفيسبوك كموقع لتبادل الصور أقامه كما يعرف الجميع طالب في جامعة هارفارد اسمه مارك مارك زوكربيرج ليتحول بعد ذلك لأكبر موقع للتواصل الاجتماعي في العالم حيث يستخدمه اليوم أكثر من مليار شخص. واصبح الفيسبوك يحتل جزءا كبيرا من حياة الكثيرين ويستحوذ على جزء كبير من أوقاتهم. لا شك أن نجاح موقع الفيسبوك هو لكون الإنسان مخلوق اجتماعي ولديه حاجة ماسة للتواصل مع الآخرين، فكان أن الفيسبوك جعل من هذا التواصل سهلا ومجانيا.
كان التعامل مع الفيسبوك في البداية أكثر انضباطا الى أن خرجت الهواتف الذكية وسمحت بالاتصال في كل زمان ومكان، هنا وقعت المصيبة! أصبح اغراء استعمال الفيسبوك في كل وقت حتى في مقابلة العمل، فهو متوفر في كل مكان وفي كل لحظة.
وللموضوعية فالقضية ليست فقط قضية الفيسبوك، فهنالك مواقع تواصل اجتماعية أخرى وهنالك البريد الإلكتروني أيضا، وهنالك بعض مواقع الإنترنت التي تأخذ من وقتنا. ففي بعض الإحصائيات تبين أنه في قطاع الخدمات فإن البريد الإلكتروني يستهلك 40% من زمن العمل بغض النظر ان كان استعماله من اجل العمل أو لأهداف أخرى. القضية ليست فقط الوقت الذي نقضيه على فحص البريد الإلكتروني انما صوت الإنذار الذي يأتي منه ويقطع علينا تركيزنا كما هي المكالمات والرسائل الهاتفية، ففي احصائية أخرى تبين ان موظفي الهايتك يفحصون البريد الإلكتروني 50 مرة باليوم ويرسلون 75 رسالة هاتفية.
في أحد الأبحاث تبين أن كل استجابة لصوت انذار - فيسبوك أو ايميل أو رسالة هاتفية أو وسيلة أخرى – يحتاج الرجوع منه الى نفس مستوى التركيز الذي كان قبل الاستجابة الى ربع ساعة. باختصار فإن ابقاء اصوات الإنذار هذه كلها مفتوحة قد يؤدي الى تشتت التركيز والى خسارة الوقت وفي معدل سنوي يؤدي الى خسارة شهر عمل في السنة.
وفي بحث آخر تبين ايضا أن الموظف الأمريكي يضيع بالمعدل ساعتين في الإنترنت في أمور لا تخص العمل بتاتا! قد يبدو هذا الرقم بسيطا لكن اذا حسبنا التكلفة والخسارة السنوية سنصل الى مبلغ 1 ترليون دولار! ماذا يعني 1 ترليون دولار، يعني مبلغا مساويا لديون امريكا.
إن الإدمان على فحص البريد الإلكتروني والفيسبوك والرسائل الهاتفية في كل مرة يصلنا فيه انذار والثمن الباهظ الذي ندفعه من تركيزنا ومن وقتنا أصبح يشكل مشكلة حقيقية عند الكثيرين، وهذه المهام - فحص البريد الإلكتروني الفيسبوك والرسائل الهاتفية – تندرج تحت قائمة المهام الملحة وغير المهمة، واستجابة الإنسان لها تحول دون قدرته على استغلال وقته وعلى التركيز وعلى العيش بهدوء.
في أحد الأبحاث تبين أن 80% من طلاب الجامعات يعتبرون أن الإنترنت مشكلة حقيقية. يبقى السؤال المطروح هنا كيف يمكننا أن نتعامل مع هذه التكنولوجيا وأن نستفيد منها دون أن نسمح لها لتتحول الى كابوس في حياتنا.
بعد ان انهيت الدكتوراه صممت زوجتي على أنه يجب أن أحمل هاتفا نقالا ذكيا، وكنت حتى حينه لا احمل هاتفا ذكيا ولا توجد عندي خدمة انترنت في هاتفي، كان هذا منتصف 2013، الهواتف النقالة الذكية خرجت في العام 2007، أي أني تأخر 7 سنوات! في الحقيقة لم أشعر حتى حينه أني بحاجة له، وذلك لأن أكثر الوقت في العمل أمضيه على الحاسوب، ودائما معي حاسوب نقال، وكنت أتخوف جدا من قضية ان أكون على اتصال لمدة 24 ساعة.
في الأخير احضرت هاتفا ذكيا، وقد كان هذا المخلوق الجديد غريبا في البداية، ومن ثم انجرفت دون أن اشعر، كنت قد عودت الجميع أني لا أرد على البريد الإلكتروني ولا على الرسائل التي تأتي في الفيسبوك مباشرة، حيث كنت أخصص وقتا محددا لأرد على الرسائل وذلك في نهاية اليوم. فقد كنت أستغل ساعات الصباح والنهار لأقوم بالنشاطات التي تحتاج الى تركيز والى جهد ذهني عالي لأن الإنسان يكون في هذه الساعات في قمة نشاطه، لكن بعد دخول الهاتف الذكي الى حياتي تحولت الحياة الى جحيم، فدون ان اشعر بدأت أرد على الرسائل التي تأتي من الفيسبوك ومن البريد الإلكتروني مباشرة.
القضية أن الآخرين اعتادوا على أني أصبحت ارد مباشرة واصبحوا يلومونني في حال تأخرت في الرد. في الشهر الأول شعرت أن انتاجي قد تراجع بشكل ملحوظ، وان حالتي النفسية اصبحت صعبة وأن الأمور تخرج عن السيطرة، لكني كنت اكذب على نفسي واقول ان هذه حالة ستمر لأن كل تكنولجيا جديدة تحتاج الى فترة من الزمن ليعتاد المرء عليها.
بعد مرور شهر ونصف كنت في احد حوانيت الكتب في احدى المدن المجاورة لنا، اشتريت كتابا ورجعت الى المنزل، عندما دخلت البيت شعرت اني فقدت شيئا فعلمت للتو أن هذا هو الهاتف الذكي! حاولت الاتصال عليه فوجدت انه قد اغلق. عدت مسرعا الى الحانوت سألت البائعات فقلن انهن لم يرين شيئا وكان واضح على وجوههن الارتباك، لم اناقش كثيرا وعدت ادراجي بعد ان اضعت هاتفي الذكي. في الحقيقة كنت في البداية حزينا لكن بعد الهدوء في اليوم الأول شعرت بارتياح غريب، وعلمت اني اضعت هاتفي لكني وجدت نفسي! وقلت بعد ان عدت الى هاتفي "الغبي" وشعرت بحجم الكارثة التي حلت بحياتي لن أشتري هاتفا ذكيا بعد اليوم.
بعد نصف سنة من هذه الحادثة عدت واشتريت هاتفا ذكيا لأن ظروف عملي اصبحت تحتم علي التعامل مع هذا المخلوق. لكن هذه المرة استعملته بذكاء لأتمتع بذكائه. فيما يلي سأبين مجموعة من النصائح كي نستطيع ان نتعامل مع هذه التكنلوجيا بذكاء وأن نتحكم بها لا أن تتحكم هي بنا.
أولا لنعرف من أين يأتي الاستعمال غير السليم للإنترنت. ان غريزة وشهوة حب الاستطلاع قوية جدا بالفطرة، بالمقابل لديه قوة ارادة التي من هدفها أن تكبح هذه الغريزة. لكن ما فعلته التكنولوجيا أنها جعلت الإغراء متواجدا في كل زمان ومكان. فنحن عندما نسمع أصوات الإنذار القادمة من الفيسبوك أو الرسائل الهاتفية او البريد الإلكتروني "تن تن.. طوط.. تت.." نشعر بإغراء شديد لا يقاوم لأن نقرأ الرسالة. والقاعدة تقول أنه كلما اقتربتم من الإغراء كلما زاد تشوقكم اليه. وقوة الإرادة مثلها مثل أي قوة أخرى فهي تتعب بعد الجهد، ومقاومة الإغراء بشكل مستمر يتعبها، لذلك حتى نتخلص من هذا الإغراء علينا اتباع الخطوات التالية:
قوموا بإلغاء كل اصوات الإنذار - البريد الإلكتروني ومن شبكات الاتصال الاجتماعية الأخرى - في هاتفكم وفي حاسوبكم. وجودكم في بيئة الإغراء سيحتم عليكم السقوط، وكما قلنا سابقا هذه العلمية ستحسن 10% من نجاعتكم العمل و توفر لكم شهرا في السنة. ثانيا، قوما بالرد على هذه الرسائل في وقت محدد في اليوم ومفضل جدا أن يكون في نهاية اليوم. هذه هي نصيحتي لكم. بسيطة لكن مفعولها أكيد. عليك أن تحدد هل ستستمر في العيش كل الوقت في سيمفونية "تن تن.. طوط.. تت.." أو...
د. محمود الخطيب – مستشار ومحاضر ومدرب
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net