الأكثر قراءةهذا الأسبوع
آخر تعديل: الخميس 14 / نوفمبر 16:01

مَواسِم الحُزن/ بقلم: المحامي رافي مصالحة

كل العرب
نُشر: 09/03/14 08:26,  حُتلن: 07:39

ثمّة نورٍ خافتٍ واهنٍ وَجِلٍ كروحيَ المتهدّلةِ ينسلُّ خجلاً في طُرقات المخيّم الطاعنةِ بالكآبة وفي حواشيها ترقد الأسرار وتتربّص عيونٌ تكابدُ طغيان الظّلمة وتصرّ على ذلك البريق الشاحب الهامس حتى آخر هزيعٍ وآخر معزوفةٍ لصراصير الليل وآخر قمرٍ مسمّرٍ في سقف الكون يُناجي حزني المتمرّد, وآخر بومٍ يتشبّث بغصنٍ عارٍ يذودُ عنه حتى آخر ريشةٍ تذوي من جناح الزمان.
في طفولتي الساذجة التي اكتوت حتى النضوج قبل موسم قطافها في مرجل التعاسة وتلاعبت بها عوامل المناخ السياسيّ العربيّ من رياح الهزيمة وأمطار المكائد وسيول الخيانة وضباب التقاعس والجفاف الفكريّ وعواصف الإخفاق فعشنا سخافة وهزليّة "كوميديا الأخطاء" لشكسبير بأتعس مشاهدها.
قرأت يوماً أنّ عزّة العرب أبديّةٌ تأبى الزّوال, وأنّ طيف كرامتنا كالأثير, يهيم في فضاءاتنا, وما عليك إلا أن تُغمض جفنيك, وتحبسَ شهيق نَفسِك العميق ثم تستشعرُه بغتةً مِلء حواسك في نسائم الغسق وفي عبق السّحَر وفي مواويل وديع الصافي ووطنيات عبد الوهاب ونبرات فيروز التي تعانق الكنائس القديمة, و تمسح الحزن عن المساجد, وما زالت تجوب في أروقة المعابد, دون جدوى !.
وما أن تفتح عينيك, عند فاصل الإعلانات في برنامج السهرة أو السوبر ستار أو المسلسل المعرّب أو طبق اليوم, حتى تجلدك الحقيقة الذميمة القسمات دون رحمة. في مخيم اليرموك يتجلى الجّوع العربيّ العبثيّ العتيق بأبشع ملامحه. لقد اختلت الدورة الغذائية في واقع المخيم, فالقطط والكلاب والجرذان الشريدة التي اقتاتت يومأً من حاويات فضلات البشر, تشاركها فلول أهل المكان قوتها من القمامة, ثم تتحوّل بذاتها فرائس للأفواه التي أرهقها الجوع والعويل, وحطمها اليأس وأعيتها صرخات الإستغاثة فتعفّنت الجثثُ الضّامرة على الأرصفة وملأت الفضاءَ رائحتُها حتى أمسى الموتُ والذبابُ الجاثمُ على الأجساد البالية من أبجديات المكان ومسلّماته التي لا تحتمل الجدل, تماماً مثل اللجوء والظلم والقهر والخيام والسياط والسجون والبرد والفقر والدعم العربيّ المزعوم ووهم الممانعة وكوابيس الانتصارات التي لم تكن يوماً إلا في منهاج التاريخ الزائف. لقد مرت سحابة الأمل العربيّ معربدة ٍ تتراقص مثل زوربا بخيلاء في كبد سماء المخيم مرور عابر سبيل, ولقد نفقَ الربيع العربيّ, بعد أن تشبّثت به آمال الحالمين بسراب الحريّة فنُظمت فيه القصائدُ والخطبُ العصماء عبثاً, وكأنّ الفلسطينيّ لم يولد من أحشاء المأساة الصدئة التي كللها عارُ ضعفِنا فوُلدَ يتيماً على رصيفِ تاريخنا الذي لطّخته الخطيئة بعد أن أناخ عليه القدر بكلكله. ماذا بقي من الحلم الفلسطيني, وقد التهمه السماسرة كسوس الخشب حتى تلاشى عن الوجود. كلّ سفاحي الشرق وكلّ تلك النماذج الزائفة المستنسخة من صلاح الدين وعنترة وأبي زيد والمهلهل وجول جمال, التي أرهقتنا بموال الصمود العربي الضبابيّ وقد زنا بها الإنهزام تلو الإنهزام, قد لا تصلح إلا لمتاحف الشمع أو أنْ تزيّن بصورها علب الثّقاب وصفائح الحليب المجفف وعلب الشامبو, لكن واقع العصر في قرننا الجديد يحتّم حقيقة نفاذ صلاحيتهم كالمعلبات النتنة.
يا إلهي: أكتب لي عمراً حتى أخطّ تاريخ مأساتي على أوراق تبغي ثم ألقيه في قارورة يتلقفها الموج نحو عباب المجهول. وبما يتبقى, سأدخّن جراحي وهمومي وأنا أقف بشموخ "فيفيان لي" في خاتمة "ذهب مع الريح" وهي تجسّد "سكارليت اوهارا" على أعتاب مزرعة "تارا" بانتظار أمل فجرٍ جديدٍ بعد غدر "كلارك غيبل" المُهين, ثم سأخلد إلى مثواي الأخير وأنا أنتظر تغريد العصافير عند مولد صباحٍ رماديّ المعالم, وريثما تنتهي رموز الوطن من التنكيل بالوطن بالمؤتمرات والمفاوضات والمعاهدات, فسأختار أن أموت في الظلّ... بهدوء !.

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net


مقالات متعلقة

.