منذ الأزل ، وأنا أتعاطى الأفيون وأرضع التبغ وأجرع الخمر وأمضغ العار وأحتسي الإثم وأهوى التسكع كي أهرب من وجه الحقيقة البشعة بأهدابها الضريرة التي ما انفكت تذرف دموعاً دافئة ناعمة عتيقة تنساب بخفةٍ كمداعبة الطلّ لزهرات عباد الشمس. حقيقتي سمراء داكنة كنهار طويل غائم، كفتاة الليل المشبعَة بالهمجية والعطر والنبيذ الرخيص، يربضُ عند عتبتها التائهون المنسيون كالغلمان وفي صدورهم رغبةٌ جامحة مزمنة تشتهيها بلا وعي ولا إرادة وتذوب حواسهم تحت ومض جيدها البارد في أوج عتمة الطرقات. منذ ميلاد الزمان وأنا أتوه في حقول العدم الزرقاء التي تختلجها الذكريات وتكسوها الشمسِ والمقابر وتلال من الوجع والعصافير التي ماتت في مطلع الرّبيع.
وحكايا أزمنتنا المرّة ستروي قصة إيمان الهمص إبنة الثالثة عشر التي كانت في طريقها إلى المدرسة وهي تحمل على ظهرها حقيبتها. كانت إيمان تسير وهي خائفة من الموت حتى الموت. كان الكون رصاصيّ اللون. رصاصيّاً في كل قسماته. لكن الجندي الذي رصدها، رآها بعين مفترس الأطفال تحمل حقيبة متفجرات فقام بإفراغ 176 من رصاصات بندقيته في جسد الطفلة إيمان فلفظت أنفاسها على الفور، وعندما شرع الجنديّ في تفتيش الحقيبة اكتشف أنها لا تحمل سوى الأقلام والدفاتر والكراسات، لكن وابل الرصاص استمرّ رغم ذلك في تمزيق الجسد الصغير. وبعد أن برّأته المحكمة الإسرائيلية من التهم قال البطل القوميّ إنه مستعد لتكرار الأمر نفسه حتى لو كانت في الثالثة من عمرها. هكذا قتلت إيمان ثلاث مرات: مرة قتلتها همجية الإحتلال ومرة ثانية أعدمها عدل الإحتلال، وقتلها في الثالثة الصمت والشلل والخنوع العربيّ.
وأنتم... يا ذوي الأحذية اللامعه والبزات الثمينة والبطون المحشوةِ بالعار ومدخني سيجار الكوهيبا وراشفي الشاتو لافيت: ماذا تعرفون عن إيمان ؟. إيمان الصغيرةِ الحلوه تلك القرنفلة ذات الوجه الضاحك كقمرٍ من الياسمين ماذا تعرفون عن لحمها الذي تمزق برصاص جنديّ نكرة أطلّ من العدم لم يعرفه ولا اهتمّ أحدُ أن يعرفه من قبل ولم نقرأ في ملامحه سوى الشفاه الراجفة الخائفه، تدرّب كيف يقتل الأطفال في حماية دبابة ثمّ يقفز منتشياّ لانتصار أخر سوف تكتبه غبار الأساطير. كان الرصاص ينهمر عليها وهي ترنو إلى الطرقات الترابيّة الحالكة المقطوعة الظلّ حيث ذبلت على نواصيها شجيرات الأمل لدى مولد الصباح في غزة وقد فرّ نور الطفولة من أحداقها، وفي أحشاء الشرق الثمل تغفو النوافذ المغطاة بالزجاج الملوّن والدم، والسلاطين قابعة كالحثالة في قذارتها تأكلُ وتنام وتموت قبلةً إثر قبلةٍ تحلم بالملاءات البنفسجية وغانيات بيضاء ونزهات في شوارع منهاتن الطويلة الممتلئٍة بالضجَّة وأضواء الإعلانات الفوسفورية، بينما الأطفال في فلسطين تذوي كالفراش وثغرُها الطافحُ بالسأم ينزف جوعا وحزنا، والحمامات الجميلة البيضاء، بين كل غارة وغارة، ترحل دونما عودة نحو البراري القاحله.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net