منذ عصور وعصافير الدّوريّ تموت عند عتبة الوطن في ظروفٍ غامضة، وأنا أخطّ ذكرياتي بين الفينة والفينة كالمحارب القديم، لكن على وجه الماء، كي أضلّل رجال الأمن والمخبرين، ثم أمحوها لأكتبها من جديد عساها تنبض بالحياة وتداعبني بشقاوةٍ كخشبة النّجار "جابيتو".
وذاكرتي تحمل قصة (ش) التي نقشتها ذات يومٍ على سحابة صيف عابرة.
(ش) إبنة الرابعة عشر قرأت إعلانا عن مخيم صيفيّ يقام في أمريكا يجمع فتيان أوطانٍ عديدةٍ يتناقشون فيه في قضايا شعوبهم ويعبّر كلّ منهم عن وجهة نظره السياسية بمطلق الحرّية علهم يصلون لنقاط التوازن التي أغفل عنها السياسيون على مدى العصور. هكذا قرأت (ش) الإعلان. وبما أن الله (والبعض سيقول: قدرها !) قد شاء أن تولد (ش) في إسرائيل فقد تحتم عليها أن تتقدم بالطلب لوزارة التعليم الإسرائيلية، حيث استدعاها القائمون على المشروع للمثول أمام لجنة القبول، وبما أن (ش) قد أيقنت ببراءتها أن المخيم فرصة لتعبر بصدق عما يخالج قلبها من مواقف وآراء ولتدافع عما تؤمن به ونشأت عليه من قناعات بصدق وعدالة قضيتها كفلسطينية، فقد دأبت حتى موعد المقابلة على شحذ ذاكرتها وشحنها بكل ما تيسر من تاريخ القضية الفلسطينية من نكبات ومآس وطموحات ودحض لوهم الحريات في دولة تلتهم أجساد ساكنيها ببرودة: احتلال فلسطين، مذابح دير ياسين وكفر قاسم وصبرا وشاتيلا، تهجير الناس من قراهم، اغتيالات القادة، القرارات الأممية، المواثيق الدولية، قضية العودة والأسرى وحق تقرير المصير، الإستيطان، سلب الأراضي، هدم المعابد والمساكن وغير ذلك الكثير الكثير.
في صباح الموعد المنشود، حضرت (ش) إلى مكتب اللجنة في الناصرة، وعندما حان دورها دخلت الغرفة فيما انتظرت الوالدة في الخارج.
نظرت (ش) إلى وجوه أعضاء اللجنة فإذا بملامح متجهمة باردة تبوح بجدية مبتذلة كجديّة الحاوي الواثق من أن الأرنب سيخرج حتما من القبعه. لقد شعرت (ش) برغبة نشأت من أعماق حواسها وهاجس يحفزها أن تسأل كل واحد فيهم: لماذا هذي الأذنين الكبيرتين ؟ ولِمَ تلك الأسنان الكبيرة ؟ هل ابتلعتم أعضاء اللجنة الحقيقيين وجلستم مكانهم ؟!. بدأت (ش) تتخيّل أن شلالاً من الضفادع سوف يخرج من أفواههم بمجرد أن ينطقوا بالسؤال الأول. ما أسخف واقعنا الذي تستنسر فيه البغاث. بادرها أحدهم بالسؤال: ماذا يعني لك علم إسرائيل ؟ فأجابت: هو قطعة قماش لا تعني لي شيئا !!. وبدا الغضب في نبرة السائل الذي تابع وهو يمد نصف جسده نحو (ش) وكأنه ينوي افتراسها ولعابه يطير في كل اتجاه: هل نسيت أنك اسرائيلية ؟! إذا اخترناك للمخيم فعليك تمثيل إسرائيل باعتزاز، فكيف تصفين العلم بأنه خرقة قماش ؟. (ش) التي لم يقو جناحاها بعد عن هجر عش الطفولة أجابت بهدوء: لكني ظننت أنني سأعبر عن موقفي ورأيي أنا بحرية ودون نفاق. وهنا ضرب "المربي الفاضل" الطاولة بعنف وقال: ليس عندنا وقت للكلام الفارغ. أخبرينا، إذا سمعت نشيد إسرائيل الوطني، فهل ستقومين إجلالا له ؟. لم تفكر (ش) كثيرا قبل أن تجيب على الفور: هذا مستحيل !. وفي تلك اللحظة بالذات اكتشفت أن اللذين يجلسان بجانب السائل الأول ليسا تماثيل من الشوكولاته كما اعتقدت، وذلك عندما صاحا بها: الآن سنسمعك نشيد "الأمل" الإسرائيلي وسنعطيك فرصة أخيرة كي تثبتي أنك أهل للمشاركة في المخيم وتمثيل الدولة بشرف. لكن (ش) التي نمت ونهلت طيلة حياتها من ينبوع العزة واحترامها لذاتها أعلنت أنها متنازلة عن هذا الشرف، فطردها أعضاء اللجنة من الغرفة، وما أن وصلت (ش) إلى أمها التي انتظرت بترقب، حتى انفجرت بعاصفة من البكاء وهي تصيح: أرادوا إذلالي يا أمي، أرادوا إهانتي.
اتصلت الأم بوالد (ش) الذي كان غارقا في عمله في قصر العدالة والحرّية المزعومة، وسمع منها ما حدث مع ابنته وطلب منها أن يخاطب الإبنة فقال لها منتشياً بفرحةٍ عارمةٍ وهو لا يقوى على حبس دموعه: "أنا فخور بك. لا شك عندي الآن أني أنجبت بنتاً تحمل كل ميزات الرجولة الحقيقية. يا ابنتي: إن الكرامة تُولد ولا تُصنع. لا تحزني فقد انتصرتِ في أول وأهم معارك حياتِك: معركتك في الدفاع عن قيمك ومبادئك أمام ثلة ممن ولدوا منهزمين وسيطوي التاريخ سيرتهم وهم يرتعون بعارهم وينعقون بوهم الحرية والعدل في مزارع التدجين الإسرائيلية".
وعاد الوالد بعدها لينصهر من جديدٍ في السّيل البشريّ الذي ينساب كأسراب النمل في قلعة العدالة وناظرُه قد تجمّد في الخرقة البيضاء ذات الخطين الأزرقين التي تتراقص بتحدٍّ على المدخل وكأنه يراها لأول مره !.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net