سليمان جودة في مقاله:
شيء واحد يحيرني وهو أن ما قال به رئيس حركة النهضة، في إسطنبول أمر بديهي منذ شهور كما أن عبارة «يعوض الله عليكم في إخوان مصر» قديمة كما نرى
بعض الحكمة المُتاح لإخوان تونس، ليس متاحا بأي مقدار للحركة الأم في مصر وأن التعقل الذي يغلِّف كلام الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية، في أكثر من مناسبة لا أثر له في دماغ محمد بديع
سوف يتأكد لنا، يوما بعد يوم، أن بعض الحكمة المُتاح لإخوان تونس، ليس متاحا بأي مقدار للحركة الأم في مصر، وأن التعقل الذي يغلِّف كلام الشيخ راشد الغنوشي، رئيس حركة النهضة التونسية، في أكثر من مناسبة، لا أثر له في دماغ محمد بديع، مرشد الجماعة في القاهرة، الذي قادها إلى هلاك كانت في غنى عنه تماما!
ثبت هذا لنا مرات، على مدى شهور مضت، قبل أن يجدد الغنوشي نفسه، إثباته، الأسبوع الماضي، مرتين؛ واحدة في إسطنبول والثانية في بلاده!.. وإن كان قد عاد سريعا لينفي بعض ما قاله، لا كله، في المرة الأولى، وهو نفي أفهمه على طريقة ما تعرفه الصحافة، في بعض حالاتها، من أنه النفي الذي يأتي أحيانا ليؤكد الخبر!
وفيما قبل، فإن الأمر قد تجلى على أنصع ما يكون، عند سقوط حكومة علي العريض السابقة في تونس، وتشكيل حكومة مهدي جمعة الحالية.
ذلك أن العريض كان واحدا من قيادات «النهضة»، وكانت حكومته، بالتالي، محسوبة على هذه الحركة الإسلامية، هناك، في كل حالاتها، ولم تكن المشكلة في أنها كانت منذ مجيئها إلى مقاعد الحكم، حكومة يهيمن عليها وزراء نهضويون، إذا صح التعبير، ولكن المشكلة كانت في أنها كانت تعمل في أجواء محلية معارضة لها، وتكاد تكون معادية، ثم في أجواء إقليمية تنطق بأن هذا ليس أوان وجود الإسلاميين في الحكم، وأنه من الأفضل لهم، إذا كانوا يتمتعون بالحد الأدنى من العقلانية في التفكير، أن يأخذوا خطوة، بل خطوات، إلى الوراء، وأن يتيحوا الطريق لمَنْ هم أقدر منهم على العمل، وعلى الإدارة، وعلى الحكم، ليديروا الشأن العام، وأن يتصدوا لقضاياه.
شيء من هذا، استطاعت «النهضة» أن تعيه، وأن تستوعبه، ثم تعمل به، فقبلت أن يأتي رئيس حكومة لا علاقة له بها، وأن يأتي معه وزراء ليست بينهم وبينها، صلة، وأن يذهب العريض، رغم قصر المدة التي قضاها على كرسيه، وأن يأتي جمعة في مكانه، لعله يكون أقدر، وهو ما حدث!
وكان أهم ما في خطوة كهذه، أنها تقول، إن الغنوشي يدرك أن هناك فرقا بين العمل الدعوي، والعمل السياسي، وأن حركته إذا كانت قد أنجزت شيئا، في الأول، فليس معناه أن تنجز في الثاني بالضرورة، وأن الواقع في تونس، وفي عالمنا العربي عموما، في حاجة منذ بداية ما صار يُعرف بالربيع العربي، إلى مَنْ يجيد قراءته، ثم يشتبك معه، بناء على هذه القراءة التي أخفق فيها إخوان مصر بامتياز!
لم يستوقفني شيء، في كلام الرجل، في إسطنبول، حيث انعقد مؤتمر هناك مؤخرا، قدر ما استوقفني كلامه عن أنه كان في لحظة من لحظات عام 2012، في اجتماع مع مجلس شورى النهضة، وأنه في أثناء الاجتماع قد جاء خبر يقول إن إخوان مصر، قد قرروا خوض انتخابات الرئاسة التي انعقدت في مايو (أيار) من ذلك العام، وأنه عندما طالع الخبر، صارح مجتمعيه فقال: «الله يعوض عليكم في إخوانكم في مصر، لقد قرروا بهذه السرعة نهاية تجربتهم».. وهذه العبارة بالمناسبة، لم يتطرق إليها النفي إياه، الصادر عنه، الاثنين الماضي.
هنا، يضع الشيخ راشد يده على أصل المشكلة وجوهرها، وهو أصل لا يعود فقط إلى أن الإخوان فشلوا خلال عام قضوه في الحكم، ولا إلى أنهم فشلوا بالدرجة ذاتها في التعامل مع ما بعد فشلهم ممثلا في ثورة 30 يونيو (حزيران)، وإنما في أنهم خاضوا السباق من الأصل.. فلم يكن السباق سباقهم، بأي تقدير، ولا كان هذا هو وقته، أو توقيته، بأي ميزان.. ولذلك، فكل ما جاء بعد قرار الخوض، إلى اليوم، ثم إلى الغد، إنما هو حصيلة لقرار خاطئ مائة في المائة، اتخذوه، ثم عجزوا ليس فقط عن التراجع عنه، وإنما عن التعامل مع عواقبه!
هذا هو جوهر الأمر، وكل ما عداه تفاصيل ابتداء من رفضهم الإنصات للنصح الذي قدمه لهم الغنوشي، ذات يوم، متطوعا، ومرورا بإصرارهم، دون سبب مقنع، على أن يظهروا في كل موقف، على أنهم يقولون الشيء، ويفعلون عكسه على طول الخط، وانتهاء بعدم إدراكهم، حتى الآن، وبعد مرور عشرة شهور على 30 يونيو، أن الطريق الذي يمضون فيه، ينال منهم، ولا يضيف إليهم، إذا كان لا يزال هناك حقا، شيء يضاف لهم، أو يُنال منهم!
شيء واحد يحيرني وهو أن ما قال به رئيس حركة النهضة، في إسطنبول أمر بديهي منذ شهور، كما أن عبارة «يعوض الله عليكم في إخوان مصر» قديمة كما نرى، ومضى عليها عامان، فلماذا تأخر صاحبها في إعلانها علينا، كل هذا الوقت، وهل كان الغنوشي في حاجة إلى شهور، بل إلى عامين، ليعلن علينا ما قاله، من قبل، في غرفة مغلقة؟!.. ثم لماذا الآن، على وجه التحديد؟!
أمر آخر، هو أن الغنوشي يقول في حديثه الثاني، في تونس، إنهم في «النهضة» اختاروا أن يتخلوا عن السلطة، حتى لا يقع البيت التونسي فوق رؤوس أبنائه، وهو كلام يُحسب له، لولا أنه صحيح جزئيا، لا كليا، لأنه تخلى عن الحكومة، وليس عن السلطة، بدليل أغلبيته في البرلمان، ثم إنه هو نفسه قال صراحة، عند تشكيل حكومة جمعة، إنهم، كحركة نهضة، خرجوا من الحكومة، ولم يخرجوا من السلطة!
للناس ذاكرة يا شيخ راشد!
*نقلاً عن "الشرق الأوسط"
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net