خاطرة السّيد أنا/ بقلم: نديم إبريق على العرب.نت

كل العرب
نُشر: 01/01 08:37,  حُتلن: 08:40

كنتُ قد خرجت ُ إلى التقاعد قبل مدة وجيزة، بحيث بدأ المللُ يغزو حياتي رويدًا رويدًا، فأصبحتُ أبحثُ عن كل شاغلٍ يُبعدني عن الروتين المقيت، أملأ فيه الفراغ . تذكرتُ فجأة بأن أحد أقاربي موجود منذ مُدة في بيت للمسنين في احدى القرى المجاورة، فقرّرتُ التوجه إلى هناك، لعلي أُخفّف عليه وطأة العُزلة التي فُرضت عليه من جهة، وأتفحص المكان الذي ربما سيكون مأوى لي عندما يُداهمني العجز والوهن من جهة اخرى...

دخلتُ إلى الباحة الرئيسية لبيت العجزة، حيث تواجد هناك عدد من المسنين، أغلبيتهم أنهكتهم الشيخوخة والمرض والعجز، فجلسوا على كرسي للمقعدين بسبب عجزهم عن المشي على أقدامهم. رأيتُ قريبي يجلس على كرسي كهذا، فاقتربتُ منه وبادرتهُ بالسلام والاطمئنان على صحتهِ وحالهِ . بدأتُ بالحديث معه فاسترسل بطبيعة الأمر بإسماعي كلمات العتاب على أولاده الذين " ألقوا " به إلى هذا المكان، وحدثني عن عقوقهم وعن قلة زيارتهم له وعن أصحابه الذين لم يزوروه منذ مدة وعن...

فجأة سمعتُ من خلفي صوتًا عاليًا. كان الصوتُ مُميزًا ومعروفًا لي من الماضي القريب- البعيد . التفتُ للخلف فرأيتهُ . دققتُ النظر فيه، فقد ضعفَ نظري بسبب تقدمي في السن، لأتأكد من الجالس هناك على هذا الكرسي، لكن عندما سمعتهُ يقول بأعلى صوته : " أنا ..." تأكدتُ من شخصيته . نعم، إنهُ هو، ذلك العامل الذي كان يعمل معي في المصنع قبل خروجي إلى التقاعد، والذي اعتدنا أن نطلق عليه لقب " السّيد أنا "...

كان هذا العامل رمزًا للأنانية ولحُبّ الذات ودائم الافتخار بنفسه وبأعماله وبتصرفاته. فإذا أكلَ، مثلا، في مطعم ٍ كان غداة اليوم يجلس أثناء استراحة الطعام ويتباهى أمام العمال في المصنع : " أنا أكلتُ البارحة في مطعم ... وقد دفعتُ مبلغًا وقدرهُ... تناولتُ أشهى وألذ أنواع الطعام، فأنا لا أتناول طعامي إلا في المطاعم الفاخرة، وأنا لا أقتربُ من الأماكن والمطاعم الشعبية، فأنا..."
وإذا اقتنى قميصًا جديدًا كان يحضر إلى المصنع ويبدأ يفتخر بما اقتناهُ : " أنا لا أشتري إلا الملابس ذات العلامات التجارية، أنا أشتري فقط من المجمعات التجارية الراقية، أنا لا أدخل اطلاقًا إلى الاسواق الشعبية الرخيصة، أنا لا أشتري قميصًا واحدًا وإنما عدة قمصانٍ مرة واحدة، أنا لا أشتري قميصًا سعره أقل من ..."

هكذا كان يتصرف دائمًا : كان دائم الاستعمال لكلمة "أنا "– عندما يُسافر، عندما يقتني أثاثًا جديدًا لبيته، عندما يشتري سيارة، عندما يتحدث عن "بطولاته"، عندما يتحدث عن "انجازاته"...
ضاق العمالُ ذرعًا من هذا المدح وهذا الإطراء الذي يكيلهُ لذاته، فاتفقنا في المصنع أن ننعته بلقب " السّيد أنا " : جاء "أنا"، ذهَبَ "أنا" ، أكَلَ "أنا"، اشترى "أنا"...

نظرتُ مرة اخرى إلى " السّيد أنا"، قمتُ من مكاني تاركًا قريبي الذي جئتُ لزيارته، واقتربتُ منه . كانت علامات الشيخوخة بادية جليًا على ملامح وجهه . قلت ُ له بصوتٍ عالٍ، خوفًا من أن لا يسمعني:
- مرحبًا، كيف حالك ؟ هل تذكرني ؟
حدّق النظر بي، تمهلَ قليلا ثم قال بصوتٍ هافتٍ :
- لا، من أنت؟ أنا ... لا أعرفك !
- الحمد لله، الحمد لله، هذه أجمل كلمة " أنا" أسمعها منك منذ أن تعرفتُ عليك !!!

موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net

تابع كل العرب وإبق على حتلنة من كل جديد: مجموعة تلجرام >> t.me/alarabemergency للإنضمام الى مجموعة الأخبار عبر واتساب >> bit.ly/3AG8ibK تابع كل العرب عبر انستجرام >> t.me/alarabemergency

مقالات متعلقة