العيدُ يدقّ الأبوابَ، ويهمس:
- هيّا، ياأطفال، أنا قادم، يومان فقط، وأحلّ ضيفاً عليكم..
نتهيّأ لقدومه، تتهيأ جدّتي أم الطّاهر، يتهّيأ جيراننا، تتهيّأ حارتنا لاستقباله كما يليق الاستقبال..
البيوت في الحارة، كلّ البيوت تستيقظ باكراً، والأطفال ينهضون مع خيوط الفجر الأولى، وأهل الحارة يهرعون إلى فرن النحّاسين، يصلّون الفجر في جامع الأشقر، ثم يقصدون الفرن، يأخذون دوراً عند" أبي صبحي".. والرجل يبلّ قلم ( الكوبيا ) بريقه ، ويسجل الأسماء بخطٍّ مرتعش وحروف متشابكة ؛ لايفكُّ ارتباطها ولايعرف تناثر نقاطها غيرُ أبي صبحي نفسه..
ورقة مدعوكة، مقطوعة من دفتر مدرسيّ مسطّر لكنّها- بالنسبة إلينا- ليست ورقة عادية، فهي مطرّزةٌ بالألقاب والأسماء والتوصيات:
- ابو أحمد.. فطائر بالجوز
أم عادل: هريسة بالفستق الحلبي..
أبو علي كرشة .. أقراص مرشوشة بالسمسم أم محمود الطبلة.. صينية صغيرة واحدة..
سعيد الفهمان.. صينية كبيرة..
زنّوبة...
أمّا جدّتي أم الطّاهر فاسمها لابدّ أن يكون في رأس الورقة!.
..........
قبقابي يوقظُ النائمين في الحارة، أقفز من الدار إلى الفرن، أقطع الدرجات الحجرية، أجتاز البوابة المعتمة، والزّقاق الصّغير، تتفرّق القطط، تركض بعيدة وقد أزعجها قرع القبقاب، أصير أمام الفرن ، رائحة الخبز الأسمر الطّازج تستقبلني، أرغفةٌ منفوخة كالأقمار المعلّقة على السطوح ، تذوب في الأفواه كما تذوب" غزّولة البنات"..
صوان نحاسية ذات أطرافٍ مدروزة تدخل الفرن أو تخرج منه، وأمام الباب، هناك، يزدحم رجال بحطّاتٍ وقنابيز يحجزون دوراً، نساء قادمات من أطراف الحارة، يجئن مبكّراتٍ ، على رؤوسهنّ أطباق القش الملوّنة، وقد عقدْن المناديل المزركشة وفي عيونهنّ الواسعة لهفة وانتظار.. ترى هل يسبْقن غيرهنّ، ويأخذْنَ أقراص العيد قُبَيل أذان الظّهر
................
جدّتي تمسح رأسي بكفّها الحانية، وتهمس لي:
- لايُفرحُ قلبي غيرك.. هيّا.. قمْ.. وخذْ دَوْراً عند أبي صبحي.. كعك العيد- في الصّواني- جاهز..
............
هذا أنا، أوّل من وصل..
ماأسعدني.. سبقت أولاد الحارة كلّهم، اسم جدّتي أم الطاهر في رأس الصفحة، وكعك جدّتي بحبّة البركة واليانسون يدخل الفرن،...
يتقاطر الأولاد ورائي، حسن وسالم وفادي وعبّودة، ومحمد وأيمن وبشير.. تتألّق عيونهم النّاعسة أمام نور الفرن، يتحلّب ريقهم وهم يَرَوْن الفطائر والهريسة الغارقة في السمن البلدي، والكعك المسمسم، والأقراص المنقوشة..
سهرت جدّتي الليل بطوله مع أمّي وعمّتي من أجل كعك العيد، وجدّي لايحبّ إلاّ كعكات جدّتي.
لايأكل حلوى إلا من صُنْع يديها.. وأبي كذلك، وأمي وعمّتي وأنا وإخوتي.. والأقارب، والجيران وأهل الحارة..
ما إن يقترب العيد حتى نتحلّق حول الجدّة ما أجمل السهر والسّمر والحكايات التي نسمعها..
ونمدّ أكفّاً صغيرةً منمنمة.. ولا ندري كيف تُرْبَطُ- بعدئذ- في أكياس قماشية، تشدّ جدّتي
وتقول:
- ضمّوا أصابعكم هكذا..
وتحذّر أمّي:
- ارفعوا أيديكم، بعيداً عن الأغطية والملاءات البيض!..
أرفع صوتي محتّجاً:
- ولكنْ.. أكبر كعكة من نصيبي!
تبتسم جدّتي وتهمس في أذني:
- أكبر كعكة يتقاسمها الجميع.. أنت ولد عاقل!
أهزّ رأسي مقتنعاً:
- نعم .. ياجدّتي.. الكعكة الكبيرة لي ولأخوتي..
.................
حكايات جدّتي تحملنا إلى عالم مسحور.. نسافر إلى بلاد مجهولة، نقطع غابة، نتسلّق جبلاً، نعبر نهراً أو بحراً، أو نهبط وادياً أو منحدراً..
الصّواني صارت جاهزة، والكعك الطّازج يخرج من الفرن،جدّتي تفرك كفّيها بلهفة:
- أنت.. منْ يفرحُ قلبي.. كم أحبّك!..
أقفز أمامها..
- أكبر كعكة من نصيبي!
تمسك جدّتي بكفيّ وتقول:
- انتظر.. ليس قبلَ أنْ..
وتساعدها أمي:
- هاتوا أكّفكم ياأولاد!..
وننام تلك الليلة، أكفَّنا مضمومةٌ، وأصابعُنا مأسورة في أكياس جدّتي القماشية، ننام بهدوء بعد أن يئسنا من إظهار مهاراتنا فوق الوسائد والمساند، لاقفز ولا شقلبةَ ولا دحرجة..
وفي الصباح، صباح العيد، نفتح أعيننا مبكّرين، وتحلّ جدّتي عقدة الأكياس، تحرّرُ أصابعنا، فإذا أكفّنا مخضّبةٌ بالحنّاء، تلك نقوش جدّتي النّاعمة السّحرية!..
نفرد أصابعنا أمام وجوهنا، تضيء شموس، وتركضُ نجوم، لقد تلطّخت راحاتنا الوردية برسوم مدهشة، وها نحن نتذوّق مع جدّتي كعكها الّلذيذ.. وأكبر كعكة نتقاسمها جميعاً..
............
تلك دارنا، فإذا اجتزتم الدرجاتِ الحجرية في أول حارة النحّاسين، وعبرتم البوابة_ هناك ذات القوس القديم، ستجدونني أمام الباب الخشبي، كفّاي ملطّختان بحنّاء جدّتي، وأنا أنتظركم، لتذوقوا كعك الجدّة، ولن تنسوا طعمه أبدأً..
موقع العرب يتيح لكم الفرصة بنشر صور أولادكم.. ما عليكم سوى ارسال صور بجودة عالية وحجم كبير مع تفاصيل الطفل ورقم هاتف الأهل للتأكد من صحة الأمور وارسال المواد على الميل التالي: alarab@alarab.co.il