من أسرار حروف الجر في القرآن الكريم (1)
(وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه..
وبعدُ
فمن روائع القرآن الكريم أنّك تستطيع الوقوف على كلّ كلمة فيه، تستخرج منها المعاني والفوائد، بل كلّ حرف، بل حتّى (أل) التّعريف لها أربعة معانٍ وقيل عشر وقيل أكثر، بل حتّى الحركات لها معانٍ، فلا تعجب إن وقع كتاب في يديك وقال معاني (التّنوين) ..
عجيبة هذه اللّغة ما أروعها ! وفريد ذاك القرآن لا مثيل له ..
*****
المهم وبعيدًا عن التّطويل، رأيت أن أسوق لكم بعض لطائف القرآن، وتدقيقاته اللّغويّة، لنقف على شيءٍ من كنوزه الّتي لا تنضب، ونعرف روائعه الّتي لا تنقطع، ونذوق نذوق بلاغته ذوقًا ..
*****
لنقف مثلًا على دلالات الحرف (مِنْ) في قوله سبحانه (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ)
إنّ (مِنْ) حرف جرّ له عدّة معانٍ، أشهرها -وهو الّذي يهمّنا الآن- دلالته على الابتداء، ولتعرف المقصود بذلك انظر الفرق بينه هاتين الجملتين:
- انطلق المجاهد مِنْ المسجد.
- انطلق المُجاهد إلى المسجد.
فإنّ الجملة الأولى أفادت أنّ (بداية) الانطلاق كانت من المسجد.
بينما أفادت الثّانية أنّ (نهاية) فعل الانطلاق كان في المسجد.
فهذا يدلّ على أنّ (مِنْ) تفيد معنى الابتداء للفعل الّذي تتعلّق به، بينما (إلى) تفيد معنى الانتهاء.
*****
إذا رجعنا للآية وأنعمنا نظرة لطيفة فيها، فسنجد أنّ (مِنْ) متعلّقة بـ(محيطٌ) أي أنّ بداية الإحاطة بهم كانت من وراء المجرمين، فليس الحديث عن مجرّد إحاطة، بل إحاطة تبدأ من خلفهم !
قف قليلًا ! لنسرح بخيالك ثمّ نرجع بعد قليل..
تخيّل ذاك الولد، وهو يرتكب منكرًا بخلسة، يتسلّل بحذر لغرفة والده، قلبه يخفق، وأعصابه مشدودة، وهو يرتجف، وقد خانته أرض قدمه، ويخشى العار والفتك به، إن القى والدُه صاحب الشّارب الملفوف القبض عليه، يمدّ يده ليسرق مالًا، فتأخذه السّكرة، وينسى الرهبة، ويطمئنّ وهو يعدّ المال، وقد خيّم عليه الهدوء فنسي..
وهو بهذه اللّحظة، يتسلّل والده من خلفه، يقترب إليه وهو لا يشعر به، يفتح جناحيه من خلفه، يكشّر عن أنيابه، يهيّئ زئيره، يبرق نظره، يقطّب جبينه، ويحيطه بكلّ أركانه من ورائه .. ثمّ تخيّل.. تخيّل حاله وخزيه !
تصوّر كم هذا المشهد فيه من الرّعب والفزع للولد ..
وهكذا الحرف (مِنْ) أعطانا دلالة عظيمة إذ ليس الحديث عن إحاطة الكفّار فقط، بل إحاطة تبدأ من ورائهم، فلله المثل الأعلى..
المقبوض هنا ذاك المجرم الخائب الضّعيف.. الّذي رغم ضعفه وهزالته وحاجته، يبطش.. ثمّ يبطش ثمّ يزيد إجرامًا، وهو يتلذّذ بجرمه، آمن في مكانه، لا يتوقّع قبضًا ولا حسابًا،
فيجيء من خلفه ربّ عظيم قاهر، خالق السّماوات والأراضين، والّذي بيده تصريف كلّ شيء، مذلّ الجبابرة، وداكّ الجبال، وفالق البحار، بعظمته وجبروته وملكوته وعزّته وهيبته وسلطانه القاهر فوق عباده، يحيط به من ورائه ثمّ يوشك أن يقبضه !!
اللهم عفوك ورحمتك !
لن أكمل ! لأنّ الدّور الآن لخيالك ! أفلته ودعه يسرح، وأرخ له العنان، وليتفكّر بذاك المشهد العظيم !!
(وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ) !!
كتبه الفقير لعفو ربّه عبد الرّؤوف أبو شقرة
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان:alarab@alarab.net