استيقظت باكراً ، رغم برودة الطقس ، فقد عزمت على زيارة العم العبد في "عزبته" حيث يعيش مع حرمه المصون ، اذ ان الباري عز وجل لم ينعم عليهم بخلف وهو راضٍ وحامد وشاكرٌ العلي القدير على نعمه وفضله .
اختار العبد قطعة ارض ورثها من المرحوم والده ، تقع على تله جميله تكشف على مناطق خلابة فيها نبعة ماء صغيرة اضافت لجمال الطبيعة العزبة المغروزة بأنواع مختلفة من أشجار الفاكهة من صبر وتين ورمان وعنب وغيرها ، إضافة لأشجار الزيتون المثمرة لإنتاج زيت صافٍ لذيذ ومشفٍ ، عداك عن ان زوجته تعتني بزراعة الأعشاب الطبية من مراميه ، دقة عدسه وزعتر وعلت وبقدونس ونعناع ، اضافت تلك النبعة نغمة موسيقية جميلة من خرير الماء الذي يتحسر مرارة النزول بدل التسلق .
ما ان اقتربت من مدخل العزبة حتى لفحني النسيم العليل الذي يحمل روائح الزهور والورود وخاصة النرجس البري واطربتني أصوات العصافير الجميلة وصوت العم الجبلي يغني الأوف للراحل الكبير وديع الصافي ، ولما لظحني ترك المعول وهرول نحوي مرحباً فعانقني وقال : "انا عاتب عليك ! طولت الغيبه ، امل انك مُش زعلان ، وان صحتك وعافيتك ممتازة ."
واخذ بيدي وهو يرحب ويؤهل ، ثم دعا زوجته ، وقال: " لنجلس هنا في المضافة " ، فقلت :" لا عمي العبد انا اريد ان نجلس على فراش الأرض في بيت الشعر الجميل واسند رأسي على وسادة البساط . "
وما هي الا لحظات حتى علا دخان فحم السنديان المعروف بجودته والعبد يجهز الجرن ومهباج القهوة التي يحمصها على النار ، دون ان ينقطع لسانه عن الترحيب والتأهيل ، وحرمه تقدم شراب الرمان الحامض محلولاً بماء النبعة الزكية وفجأة ينتبه العم العبد انني كنت احمل بيدي شيئاً ما ، فسألني : " ماذا احضرت لي اليوم ؟ امل ان يكون كتاباً وليس اكلة ." ، فابتسمت وقلت له : " كتاباً يا عماه.. لن اقدمه لك قبل ان اسمع منك حكمك واقوالك الشيقة المهمة والمفيدة ، وبعد ان نحتسي قهوتك الساده ، فأنا متشوق جداً لأرآئك السديدة ، وافكارك النيرة البناءة .. "
والحق يقال ان العم العبد انسان متواضع جداً ، لم يحالفه الحظ فأنهى الصف الرابع الابتدائي لان الأوضاع المادية الصعبه وعدم توفر مدارس ثانوية قريبه آنذاك حالت دون متابعة علمه رغم ذكائه الخارق وفطنته الحاده ، فانتقل ليساعد والده على الزراعة ، حيث انه ابنه الوحيد ، وعملا سوياً في الحراثة وجني الزيتون وزراعة الحقول .
وبعد وفاة والده رحمه الله ، اخذ سماسرة الأراضي المتآمرون يغزونه محاولين إقناعه بيع قطع ارض مختلفة لأملاك الدولة ، عارضين عليه اغراءات ماليه كثيرة ومناصب فارغة ، وخاصة بعد ان تأكدوا انه لن يرزقه الله بخلف يرثه .. لكن ليس العبد من الذين ينغرون او يُشترون بالمال ، ورفض تطاول بعض اللئام إقناعه ترك قرينته التي تزوجها عن حب وإخلاص وكانت نعم الزوج والسند ، وان يتزوج بأخرى عسى ان ينعم الله عليه بخلف يرثه ، خاصة وان ارزاقه كثيرة ، فكان جوابه القاطع ، هذا قدرنا في الحياة ولن اترك ابنة الحلال ولو عرفت انني سأرزق بأولاد بعدد أولاد النبي يعقوب عليه السلام .
بعد ان اتم تحميص القهوة التي ملأت رائحتها الجميلة والزكية البيت والفناء ، وضعها لتبرد ، ثم ليطحنها في الجرن ، وحتى يحصل ذلك بدأ بالحديث بالسؤال عن الاهل والأولاد متمنياً الخير لهم ، فكان لا بد من التطرق للأحداث في البلدة والدوله فهو رجل المجتمع الغيور على مصالح اهله وبلده ، يحب الخير كل الخير للناس كل الناس ، ويعلم بالمؤامرات التي تحيكها السلطة لمصادرة ما تبقى من الأراضي والتضييق على الشباب في المجالات المختلفة علهم ييأسون ويتركون البلاد ، فلا تطوير للمرافق الاقتصادية ولا دعم للزراعة ولا اهتمام للتعليم والمؤسسات التعليمية .. ثم تنهد طويلاً ، وقال : " ان السلطة تامرت ولا تزال على كل أبناء شعبنا العربي الفلسطيني في الداخل فقسمتنا الى طوائف ، وقسمت كل طائفة لقبائل ، وخلقت قوميات مزيفة ، وخاصة أبناء الطائفة المعروفيه فغررت بالزعامة آنذاك مستغلة طيب قلوبهم وضعفهم المعنوي العددي والعلمي وقررت تنفيذ قانون التجنيد القسري بيد واحده دون أي مقابل وسرقة أراضينا باليد الأخرى ، فصادرت بالحيل السافلة اكثر من 80% منها ، بدلاً من ان تضع برامج تطوير صناعي وعلمي يلائم العصر الحديث كما هو مطلوب من دولة عادلة ديمقراطية ، وتدعي ان الخدمة في الجيش هي المفتاح لنيل حقوق المواطن الكاملة ، وللأسف الشديد " نحنا طلعنا لا من هون ولا من هون " ، خسرنا أولادنا ومستقبلهم وخسرنا أراضينا وارزاقنا .
لكن وللحق يقال: اليوم هذه الأمور كلها متعلقة فينا في القيادة من رؤساء مجالس وأعضاء كنيست وقيادة دينية وشباب متعلم مثقف لأنه يا ولدي الحق يؤخذ ولا يعطى وخاصه في هذه الدولة التي في نظري اكثر دولة عنصرية في العالم والظلم فيها شرعي وواجب ، فعلينا وخاصة انتم الشباب الواعي التحرك لان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما في انفسهم .
وفجأة تدخل حرمه وتقول: " عن اذنك يا عبد حان وقت الفطور ..." ووضعت امامنا سدر النحاس الكبير وعليه مما دب وهب من الطعام الشهي الذي فاحت رائحته اللذيذة ، فمن بيض بلدي مقلي بالسمنة العربية الاصلية وباذنجان مشوي وعليه حبات الرمان الحامض وعلت اخضر وزعتر وخيار وبندوره وفلفل وغيرها .. وقالت: " هذا من خيرات الله من ارضنا ودجاجتنا ، نأمل المجابره " .
وتفرض علي العادات والأخلاق ان أحاول الاعتذار رغم انني اعرف ان لا مجال لذلك وكذلك روائح الطعام الطبيعي اللذيذ اخترقت معدتي التي تمنت ان لا يقبلوا اعتذاري وهذا ما حصل ،وبدأنا الاكل فخفت ان يلاحظوا على اكلي بشراهة ، لكنهم كانوا يشجعوني على الاكل اكثر واكثر ،ثم حضر حليب الماعز العائش على الأعشاب البرية السريس الأخضر ، والجبنة المصنوعة من الحليب ، فتمنيت على الله بيني وبين نفسي ان لا اشبع ، لانه مش كل يوم في فطور طبيعي وصحي مثل هذا.
وينتقل بنا الحال ليبدأالعبد بطحن القهوة في الجرن والمهباج وهو بارع جداً في دق على الجرن ، ويتلاعب به ليصدر اصواتاً موسيقية جميلة جداً قلما يتقنها احد مثله ، وخلال ذلك يتابع حديثه الجميل والهام ، فالعم العبد يبلغ اليوم الثمانين عاماً تقريباً ، عافيته ممتازة ، ومن لا يعرفه يظن انه ابن الستين عاماً ، ويعرف بكرمه الحاتمي والأخلاق الشريفة النبيلة ونشاطه الاجتماعي وعطائه المخفي المتواصل ، وهو انسان شره المطالعة ، لذلك يعتبر واسع المعرفة ويقال بانه موسوعة علمية متنقلة على رجلين .
فاخذ يتساءل عما يحدث في العالم العربي ، من الكوارث والاعمال الاجرامية الوحشية التي ترتكب باسم الدين الإسلامي الحنيف الشريف ، ويصرخ قائلاً : " يا سامعين الصوت ، صلوا على النبي ، ان الدين عند الله الإسلام ، والله ورسوله (عليه الصلاة والسلام) والدين منهم براء ، أي الهة هذه التي تأمر بالقتل وقطع الرؤوس وبيع النساء والفتيات ووأدهن ، والله والله والكعبه الشريفه أنهم أعداء الإسلام ويحاولون تدنيسه ولان الإسلام يدعو للمحبة والايمان الصادق والعطاء وكرم الاخلاق والإخلاص والسلوك الحسن والكرم واغاثة الملهوف واعانة المحتاج والفقير وصقل وجوهرة النفوس... " ثم يهدأ قليلاً ليقول : " ورب الكون لأنّها مؤامرة أمريكية غربية لتمزيق العالم العربي ودوله واضعافها لتبقى مستغله الزعامات المتآمرة على شعوبها وسرقة أموال البترول الطائلة والتي يجب ان ترصد في الانسان العربي وعلمه وثقافته ، حيث قال يحيى بن زكريا عليه السلام : ’ ان الجواهر في الانسان وليست في الحجارة ‘ .. " ويتابع العبد : " لماذا ؟ لماذا يا من تدعون انكم قادة وزعماء العرب ، الا تخافون الله عز وجل فتخدمون أمريكا بدلاً من ان تخدموا شعوبكم اقتصادياً ، علمياً وصناعةً ؟ الى متى ستبقون مستعبدين ؟ حتماً سيكون حسابكم عظيم عند رب العالمين ، لأنه لا يتقبل أفعال المجرمين الخونه ولن يسمح لكم بمواقفكم المخزيه المخجلة وستثور شعوبنا الشريفة لتثبت انه
إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر
لا لا يا ولدي فأن الظلم لن يدوم مهما تطاول المعتدون الفاسقون فقد سُأل رسول الله عليه الصلاة والسلام ، أيذهب الحلال يا رسول الله فقال : نعم الحلال يذهب ، لكن الحرام فهو وأهله ، وانتم أيها الجاثمون على مقدرات شعوبنا ، كلكم حرام في حرام وستذهبون بقدره تعالى مهما طال الزمان... " الله يسمع منك يا عمي العبد .
وينتهي العم العبد من تحضير القهوة الساده فيقدمها لنا وهي الترياق بنفسه وكما وصفها احد الأصدقاء أنها تشفي من سبعين مرضٍ .
يطول الحديث مع العم العبد ويطول وهو شيق ومفيد جداً ، وحكمه سديدة وبناءه ، ويصعب علي فراقه ، لكن الظروف لا تسمح بالبقاء اكثر ، فأخرجت كتاب ’لمسات وفاء‘ ، للكاتب المعروف الدكتور شكري عراف ، مؤرخ تاريخ شعبنا العربي الفلسطيني ابن معليا البار ، فيه حوالي ثماني مائة صفحة عن نكبة شعبنا سنة 1948 وقصة واحداث نصف سنة قبل النكبة الصعبة والتي تسجل مواقف القرى العربية المعروفيه في الجليلين والكرمل الذين آثروا الاستشهاد في قراهم على الهجرة، وذلك باستضافة عشرات الاف من إخواننا من القرى المجاورة الذين شردهم المحتل ، ولن ادخل في تفصيلها لنترك لك أيها العم الغالي قراءتها وانا واثق انه لن يطول ذلك .
قدمت له الكتاب وقلت له بكل تواضع : " كل زيارة لك هي فرض وواجب ، ففيها المتعة والفرحة والاستفادة ، لن أتأخر عليك المرة القادمة " . شكرته وحرمه حسن الضيافه وحلاوة الحديث ، وحلاوة مرارة القهوة الساده متمنياً له ولحرمه المصون العمر المديد والصحة والعافية ودوام البقاء .
يركا
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net