د. كمال موعد في مقاله:
الإصلاح الأخير "تعلّم ذو معنى" لا يشكل مجرد إصلاح آخر يضاف إلى قائمة الإصلاحات الطويلة وإنما هو نقلة نوعية وتغيير جذري في الفلسفة التي تقف خلف العمل التربوي
حان الوقت للمعلم أن يعود إلى مكانته الطبيعية وان يكون مربيًا مرشدًا وموجهًا لا أكثر وعليه أن لا يحتكر المعرفة وان يكتفي بكونه احد مصادر المعلومات وليس مصدرها الوحيد
ان المتابع لقضايا التربية والتعليم في البلاد يلاحظ كثرة الإصلاحات وتنوعها في جهاز التعليم. وبمبادرة من وزير المعارف شاي بيرون، شهد العام 2014 انطلاق عدة إصلاحات في جهاز التربية والتعليم وكان على رأسها، الإصلاح المسمى "تعلّم ذو معنى" (למידה משמעותית). الجدير بالذكر أن كثرة هذه الإصلاحات تشكل دليلًا على ضعف جهاز التعليم وعلى خيبة الأمل من نتائجه في امتحانات التصنيف القطرية المحلية وكذلك الدولية التي تنظمها منظمة OECD (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) في العلوم والرياضيات وفهم المقروء.
منذ مطلع ثمانينات القرن العشرين، انتهجت وزارة المعارف في إسرائيل سياسة "المعايير الموحدة" (סטנדרטים בחינוך) وعلى رأسها امتحان البسيخومتري ذو الأصول الامريكيّة، وذلك في محاولة لرفع مستوى التحصيل ومنافسة الدول المتقدمة اقتصاديا وعلميا وتعميق ثقافة التنافس بين الطلاب وكذلك بين المدارس وبالطبع إضافة عدد من النقاط لمصلحة الوزير الموجود كي يستثمرها سياسيا. بيد أن النتائج لم تكن مشجعة في كل الأحوال حيث استمر تراجع مستوى التحصيل في الامتحانات الدولية وكذلك في امتحانات "الميتساف" الداخليّة التي يتقدم إليها طلاب المدارس الابتدائية والإعدادية وبات واضحا وجليا فشل سياسة "المعايير" التي أنفقت عليها الدولة أموال خيالية. هذا الفشل ضاعف من حجم التخبط والخيبة بين أوساط مصممي سياسة التعليم في الدولة ووقف وراء كثرة الإصلاحات والتقلبات في الجهاز.
لكن الحقيقة أنّ الإصلاح الأخير، "تعلّم ذو معنى"، لا يشكل مجرد إصلاح آخر يضاف إلى قائمة الإصلاحات الطويلة وإنما هو نقلة نوعية وتغيير جذري في الفلسفة التي تقف خلف العمل التربوي في الجهاز بأكمله تجعله ينتقل من جهاز يركز على "ماذا" يتعلم الطالب إلى "كيف" يتعلم. هذا الإصلاح هو بمثابة عودة عن الرغبة التي سادت جهاز التعليم عشرات السنين بتحويل المدارس إلى مجرد "مصانع للعلامات" والى "حلبة سباق" يلهث فيها الطلاب والمدراء وراء العلامات والمعدلات العالية دون أدنى التفات إلى طرق تحصيلها، دون أدنى التفات إلى حصة والى دور الطالب في العملية التعليمية. إنّ الإصلاح المذكور جاء كي يعيد للطالب مكانته الطبيعية التي حددها فلاسفة التربية منذ أكثر من ألفي عام: ينبغي أن يكون الطالب في مركز العملية التعليمية التربوية. ينبغي أن يصعد الطالب إلى "المنصة" وان ينزل عنها المعلم. حان الوقت للمعلم أن يعود إلى مكانته الطبيعية وان يكون مربيًا، مرشدًا وموجهًا لا أكثر. عليه أن لا يحتكر المعرفة وان يكتفي بكونه احد مصادر المعلومات وليس مصدرها الوحيد خصوصا ونحن في زمن تتفجر فيه المعرفة وتتضاعف وتتعدد مصادرها بأسرع مما ندرك. دون ذلك سوف يبقى الطالب أجوف ولن تتحصّن شخصيته، لن تتسع معلوماته ومداركه، لن تتولد في داخله الرغبة على التعلم، لن يحترم المعلم ولا المنهاج، لن يشعر بالفخر الحقيقي الداخلي بنفسه لدى حصوله على التفوق، لن يطور ولن يعمق لا القدرات الذهنية ولا القدرات الاجتماعية عند الطالب.
أسلوب التعليم
تخيّلوا، إخواني المدراء والمعلمين، إن أسلوب التعليم الأول والمحوري عند فلاسفة اليونان القدماء كان الحوار ما بين المعلم والطالب. تخيّلوا أن ممارسة المناظرات الفكرية وفن الخطابة شكلت محور العملية التعليمية التربوية في ذلك الحين. تخيلوا أن أعظم فلاسفة ومعلمي التاريخ، أرسطو، كان يشارك طلابه المناظرات والخطابة والتشريح والتجارب العلميّة فقط لأنه وجد قبل أكثر من ألفي عام بأنّ التعلّم ينبغي أن يأتي من داخل المتعلم حتى يكون ذو معنى وإلا فلن يكون أكثر من عملية تقليد الطالب لمعلمه. ليس أهم في العملية التعليمية التربوية من العمل المشترك بين معلم وطلابه بدلا من الفرض والإجبار والإملاء، ليس أهم من شعور الطالب بالمسؤولية والرغبة نحو المادة التي يتعلمها، ليس أهم من التنويع في طرائق التعليم بما يتناسب مع قدرات وميول واختيارات وطبيعة الطالب.
تعلّم ذو معنى يخرج الطالب من دائرة الروتين والملل ويدخله إلى دائرة الشراكة والحيوية والرغبة الداخلية والإبداع. بكلمات أوضح أقول إنّ تعلّم ذو معنى يمهد الطريق لحياة ذات معنى، حياة يميّز فيها الطالب بين الجوهري وبين السطحي، يطوّر قدرته على الفهم الذاتي، الاستنتاج، المقارنة، التحليل وبناء سلّم أولويات ثم اتخاذ القرارات الصائبة المستقلة.
من هنا، علينا نحن أهل التربية والتعليم، معلمين ومديرين في المدارس العربية، تبني هذا الإصلاح الجوهري الذي لطالما انتظرناه، علينا تذوينه فينا وتحويله إلى نهج يومي والى حياة مستدامة لما فيه من إضافة نوعية لطلابنا ولمجتمعنا. هل هنالك معوقات تحول دون تطبيق تعلم ذو معنى؟ بالتأكيد هنالك معوقات مادية لها علاقة بمحدوديّة إمكانيات المدرسة واستعدادها لاحتضان فعاليات تعليمية متنوعة يقوم بها الطلاب ومعلميهم.
إلا أن المعوقات الأكبر والأصعب برأيي هي معوقات بنيوية اجتماعية- نفسية لها علاقة بمكانة المعلم المتوارثة وشعوره بمركزيته في العملية التعليمية كسيّد وكصاحب القرار ومالك المكانة الرفيعة التي توجب السمع والطاعة من جانب الطلاب دون جدل ولا اعتراض. هذا هو بالضبط التحدي الأكبر أمام المعلم وأمام المدير العربي: التخلّي عن أنانيته والخروج من عباءة المعلم المهيمن مالك المعرفة والمعصوم عن الخطأ والانتقال إلى مرحلة الاعتراف بالطالب وقبوله كشريك أوّل وليس ثاني بالعملية التعليمية. علينا إخواني المدراء الاستمرار بتطبيق هذا الإصلاح ما استطعنا مع الوزير بيرون أو بدونه لان غايتنا هي بناء طلابنا ومساعدتهم وليس مجرد إطاعة تعليمات الوزير.
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net