النائب إبراهيم صرصور في مقاله:
ما كان احد يظن او ولده الشاب (صهيب) الذي نبت في ارض الصلاح والعلم والدين أن يلقى حتفه على يد حثالة من البشر سَوَّلتْ لهم انفسهم قتله ظلما وعدوانا
الحلق والقلب يغصان بحسرة وغضب لا تستطيع الكلمات وصفهما لا اعتراضا على قضاء الله وقدره ولكن لوقاحة المجرم القاتل ولعجزنا عن مقاومته ووضع اليد عليه
سيبقى الموت على الدوام هو الحق الذي لا ريب فيه، واليقين الذي استسلمت له قلوب الناس جميعا على اختلاف اعتقاداتهم وقناعاتهم، فمن تراه يجادل فيه وفي سطوته؟! ومن تراه يناقش فيه وفي أسرار غدوه ورواحه؟! ومن تراه يقدر على تأخير موته وتأجيل ساعته؟! وصدق الله العظيم وهو يقول: "كل نفس ذائقة الموت"، ويقول: "وجاءت سكرة الموت بالحق، ذلك ما كنت منه تحيد"، ويقول: "فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون".
في هذه اللحظة الفاصلة، الكل سيندم، الطائع الذي مات على الطاعة والصلة بربه ندم على التقصير وتمنى لو أنه ازداد عملا صالحا واستثمر ما فَوَّتَ من مساحة عمره دون أن يضاعف فيها الكسب الخالد، والعاصي يندم على تفريطه في جنب الله، ويتمنى لو عاد ليتوب ويعمل الصالحات، ولكن هيهات، فقد حكم الله تعالى: "وإن يستعتبوا فما هم من المعتبين".
فالعاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فقام رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله، من أكيس الناس واحزم الناس؟ قال: "أكثرهم ذكرا للموت، وأكثرهم استعدادا له، أولئك الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا وكرامة الآخرة".
هذه وقائع من المفروض أن تصبح جزءًا من حال المؤمن الصادق، فلا تغيب عن ذهنه أبدا، إلا أنها تفرض نفسها بشكل أكثر تأكيدا حينما نُصْدَمُ بفراق حبيب أو عزيز في ظروف مأساوية وغير عادية، حينها يصبح لهذه المعاني وبشكل مؤثر وربما صادم صدى آخر يأخذ بزمام القلوب والنفوس فلا يفلتها إلا بعدما ينغرس فيها عميقا، أعترف أنني شعرت بهذا لحظة سمعت مع الآلاف من أهل كفرقاسم والمجتمع الفلسطيني في كل مكان، بوفاة الشاب الرياضي الخلوق صهيب محمد فريج – رحمه الله رحمة واسعة – غيلةً على يد مجرم او مجرمين قست قلوبهم فهي كالحجارة او أشد قسوة، وتبلدت مشاعرهم فكأنما قُدَّتْ من جلمود صخر.
شاب في مقتبل العمر، ابن لواحد من خيرة أبناء مدينتنا، كرس حياته لخدمة الإسلام والمسلمين في كل مكان من خلال موقعه المرموق في حركته الإسلامية في كفرقاسم.
منذ تفتحت عيناي وأنا أرى هذا الرجل – محمد احمد فريج / أبو احمد – والد الشهيد صهيب، يفتح بيته وجيبه بلا شروط لخدمة الإسلام والمسلمين، فكان واحدا من أعمدة الخيمة الإسلامية الذي ما زال يضيء عتمة الظروف القاسية التي تواجه شرائح واسعة في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل وفي كل مكان.
لحظة سمعتُ بمقتل ولده التقي النقي (صهيب)، تزاحمت في ذاكرتي فجأة مشاهد ذات علاقة مع هذه العائلة الأصيلة. جَدُّ (صهيب) ووالد الحاج (ابو احمد) كان واحدا من شهداء مجزرة كفرقاسم، سطر بشهادته صفحة ناصعة في تاريخ العائلة والشعب والأمة. كان لشهادته أثرها الكبير في التزام العائلة خَطًّا دينيا وطنيا ملتزما جعلها واحدة من العائلات التي شرفت كفرقاسم وما زالت تشرفها. كان (أبو احمد) يوم استشهاد والده طفلا صغيرا.
في العام 2000 توفي ولده البكر (أحمد) والذي به كُنِّي، وهو في العقد الثاني من عمره في حادث طرق مؤسف، فما كان من (أبو احمد) الا ان صبر واسترجع، واحتسب ولده عند الله.
ما كان احد يظن او ولده الشاب (صهيب) الذي نبت في ارض الصلاح والعلم والدين، أن يلقى حتفه على يد حثالة من البشر سَوَّلتْ لهم انفسهم قتله ظلما وعدوانا، فقتلوه.
لم يُقَدِّرْ هؤلاء القتلة المجرمون الذي اراقوا دما بريئا وازهقوا روحا طاهرة، أوضاع العائلة وما ابتليت به من مصائب عبر عقود، لم يشفع شباب (صهيب) الطاهر عند هؤلاء القتلة، كما لم تشفع شهادة جده، ولا وفاة أخيه الأكبر، لِيَرُدَّهُمْ كل ذلك عن الاقدام على ارتكاب جريمتهم النكراء.
مَرَّت هذه العاصفة الهوجاء من البلاء على قلوب أمِّ احمد وأبي احمد وابنيهما وابنتهما، فما زادوا على ان قالوا: ان العين لتدمع وان القلب ليحزن، وانا على فراقك يا صهيب وفراق اخيك وجدك لمحزونون، لكنا لا نقول الا ما يرضي ربنا، فانا لله وانا اليه راجعون، ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. حمدوا الله وأثنوا عليه، ورضوا بقضائه وقدره، فنالوا بذلك يقينا ما وعد الله. (أبنوا لعبدي بيتا في الجنة وسموه بيت الحمد).
رغم ما استقر يقيني من قناعة بعمق أيمان عائلة الفقيد وعلى رأسهم الوالد (أبو احمد )، إلا انني استبعدت ان يشارك في غسل ابنه فلذة كبده، لقد فاجأنا الرجل بمشهد جليل جديد جعلنا نطأطئ الرؤوس له احتراما وتقديرا، لحظة دخل مع المغسلين ليشارك في غسل جسد لده وقد رأى الدم ينزف من قلبه، فما كان منه الا ان حمد واسترجع مذكرا نفسه ومن حضر ان الدنيا ما هي الا دار ممر، وأن الأخرة هي دار المقر، ومهما طالَ مقامُنا في هذه الفانية سيأتي اليوم الذي يلتم فيه الشمل في مقعد صدق عند مليك مقتدر. سَجَّلَ بموقفه وبكلماته هذه صفحة نورانية جديدة ادعو الله ان تكون في ميزان حسناته وحسنات أسرته.
نال (صهيب) الشهادة برصاص الغادرين وهو يُعِدُّ خطط زواجه هذا العام بعد ان أوشك على تجهيز بيت الزوجية، أتخيل شوقه إلى hدخال الفرحة الى قلب والديه بعد موجات عاتية من الابتلاءات، لقد بشره أبوه ليلة وفاته بخبر تحديد موعد العرس. خرج من عند أبيه وقد امتلأ قلبه فرحا بالخبر، انتظر الوالد صباح يوم جديد يشرع مع ابنه في اتخاذ الإجراءات اللازمة، الا ان الخبر كان سريعا، وقبل ان يأوي الاب في فراشه، خبر الفاجعة. خبر عودة الابن البار ولكن لا إلى بيت الزوجية الأرضي بل إلى وطنه السماوي، إلى الجنة، خرج (صهيب) من عند والده على أمل أن يعود من الغد ليرى ما بشره به أبوه ليضع لمساته على بيت الزوجية ، لكن الله سبحانه قدر أن يعود إلى غيره، إلى داره في جنة الخلد مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقا.
حُقَّ لأهله ولنا ولكل من عرف المرحوم (صهيب) أن يحزنوا، كيف لا، وقد فقدنا شابا نشا في طاعة الله، وتربى في رحاب القرآن، وعاش حياته القصيرة في أجواء طاهرة كلها علم وعمل، أنهاها والملائكة قد فرشت له ولأمثاله أجنحتها رضا بما يطلبون من الخير الذي أرادوا بعناد أن يكون سلم معراجهم لإرضاء الله سبحانه ولخدمة دينهم وأمتهم ووطنهم. قضى إلى الله وهو في عبادة ربه، فكيف لا يكون شهيدا ويرتفع إلى مولاه سعيدا ؟؟.
الحلق والقلب يغصان بحسرة وغضب لا تستطيع الكلمات وصفهما لا اعتراضا على قضاء الله وقدره، ولكن لوقاحة المجرم القاتل، ولعجزنا عن مقاومته ووضع اليد عليه، كم من قتيل سُفِكَ دمه غدرا ولؤما، ونجى القاتل بجلده لم تصله يد العدالة الأرضية. كيف له ان ينجو من قبضة العدالة السماوية؟
صبرا يا اخي ابا احمد ويا أختي ام احمد ويا آل ابي احمد، ويا جد الشهيد الحاج الجليل ابا الأمين، ويا شيخ صفوت خال الشهيد، فان موعدكم الجنة ان شاء الله. رحم الله الفقيد وَعَوَّضَ أهلَه خيرا، لكن: الى متى نظل نتجرع الآلام ونبكي موتانا ؟! عزاؤنا ان الله قال: (انا من المجرمين لمنتقمون )، وقال: (ان ربك بالمرصاد)، فأين سيذهب المجرمون؟!.
النائب إبراهيم صرصور – رئيس حزب الوحدة العربية/الحركة الاسلامية
المقالات المنشورة تعبر عن رأي كاتبها فقط، وموقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكارهم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية رأي حر . لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net