جريس بولس في مقاله:
أحد الأسباب الرئيسيّة التي دعتني لأخذ موقف "المقاطعة" هو "مخطط برافر" والذي وقف له في المرصاد ونجح هو النضال الشعبيّ وليس النضال البرلمانيّ المزوّر وكذلك يوم الارض
نحن بصدد تيار شعبي حقيقي يتبنى مقاطعة انتخابات النظام الصهيوني ولا نتحدث عن أقلية "هامشية" أو "متطرفة" سواء لدوافع مبدئية قوية أو سياسية راهنة
يبقى المطلب الاساس للمقاطعة هو الدافع الوطني المبدئي باعتبار الكنيست هي المؤسسة "الصهيونية" أو "الإسرائيلية" الاعلى والتصويت لها هو دعم لشرعيتها
مقاطعة الانتخابات الاسرائيلية- انتخابات الكنيست- واجب وطني- الحلقة الثالثة، النضال الشعبيّ أجدى وأقوى من النضال البرلمانيّ المزوّر.
مقدمة:
تتمة لمقاليّ السابقين عن هذا الموضوع أود أن أوضح أن أحد الأسباب الرئيسيّة التي دعتني لأخذ موقف "المقاطعة" هو "مخطط برافر" والذي وقف له في المرصاد ونجح هو النضال الشعبيّ وليس النضال البرلمانيّ المزوّر وكذلك يوم الارض. فالذي أثبت عبر السنوات المرار التي عاناها الفلسطينيون مع الصهيونية ان النضال الشعبيّ الموحد هو الذي يأتي بالنتائج وليس النضال البرلمانيّ المزوّر.
لماذا المقاطعة:
بين الأمور العامّة والخاصّة، تجد المواطن، ابن هذه الامّة، مشتتاً بين ضروراته الشخصيّة وضرورات حياة الامّة، فالبلدة أو الحارة المحتاجتان الى مدرسة أو طريق معبدة أو مستشفى أو ميزانية للخدمات، والمواطن الذي هو في أمس الحاجة الى علاج أو عمل أو دخل أو هبة دراسيّة كثيراً ما يضطران الى التعامل مع جهات وقوى معادية أو آثمة أو ظالمة وبشروط هذه الجهات الأخيرة، فتجد نفسك ماثلاً وراء ثوابتك الوطنية والمبدئية، ولكن لا تستطيع حل المشكلة عن طريق اعطاء المواطن كتاباً عن المقاومة ليسكن في صفحاته أو بياناً يؤكله لأبنائه أو خطاباً قوميّاً ليحلي به كأس القهوة، وتجد نفسك حينها أمام إنتهازيين يستغلون هذه الظروف، كظرف الاستبداد أو ظرف إحتكار السلطة من قبل الأقوياء في الأرض، يفندوا تذيلهم الساقط وسلوكهم ولكن في المقابل تجد نفسك أيضاً، في أوقات أخرى، أمام مشاكل يوميّة ومعيشيّة حقيقية لا يمكن أن تقوم بحلها في ظل انعدام مشروع وطني للعدالة وللتطوير وللتنمية، وغياب قوة حقيقية يمكن على الأقل أن تمنع بعض تسيبات الطغاة والظالمين.
وفي مثل هذه الأجواء، أجواء غياب حراك ينتج الأمل بحل أساسي قريب لأزمة المواطن والوطن، تبدأ الطروحات لتحسين الأمور الواقعية من داخله بسبيل "النضال" ضمن المؤسسات القائمة، فتنشأ فئة كاملة ترضع من الإنتهازيّة السياسية تقدم وعداً للمواطن بالقيام بإصلاح الصهيونيّة أو الطغيان أو الاحتلال عن طريق الذوبان في مشروعه السياسي ومؤسساته، فتقوم هذه الفئة بجني السراب والكذب للمواطن مع بعض فتات، بينما تجني لنفسها الأرباح الكبيرة، وتقوم هذه الفئة بالسمسرة على القضية الوطنية، وتقوم بنعت اية دعوة جدية لتغيير الواقع الاليم بصورة جذرية بانها "متطرفة" أو "غير واقعية" أو "عدميّة".
في مثل تلك الأمور، تصبح تعرية الإنتهازيين الذين هم جزء من الواقع الأليم لا تقل أهمية عن الثورة على ذلك الواقع، لا بل بداية ضرورية للتغيير الجذري الحقيقي وبسبب تلك الظروف، ظروف الاحتلال والتمييز العنصري والتهميش، تأتي الدعوة للمقاطعة ولهبّة شعبية التي تدعم المقاطعة لذا يجب التركيز وصب الجهود في مسارين: أولاً: إقناع الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني بمقاطعة الانتخابات الصهيونية وثانياُ: كشف انتهازية الشخصيات والقوى التي تعمل على صهينة القواعد الشعبية الفلسطينية من خلال رميها الى المشاركة في النظام السياسي الصهيوني. ان تيار مقاطعة الانتخابات الصهيونية في الداخل الفلسطيني هو تيار شعبي واسع لكن للأسف وسائل الاعلام تقوم بتجاهله وتروج لعملية "الأسرلة" حين تؤكد على مشاركة الفلسطينيين في الداخل في انتخابات الكنيست أعلى هيئة في النظام الصهيوني.
ولا ننسى أن قاطع حوالي 40% من الفلسطينيين في الداخل، أصحاب حق التصويت، انتخابات الكنيست سنة 2003، وتفاقمت المقاطعة بين فلسطينيي الداخل لانتخابات رئاسة الوزراء عام 2001 بعد المجزرة التي قام بتنفيذها ايهود باراك، رئيس الوزراء الصهيوني حينها بحقهم، بعدما صعدوا نضالهم وخرجوا تضامناً مع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في الضفة والقطاع، مخلفاً 14 شهيداً والكثيرين من الجرحى، وحسب استطلاع للرأي نشرته جريدة "هآرتس" قام بمقاطعة الانتخابات الكنيست السابعة عشرة في 28.3.2006 حوالي 50% من المواطنين الفلسطينيين في الداخل.
إذن، نحن بصدد تيار شعبي حقيقي يتبنى مقاطعة انتخابات النظام الصهيوني ولا نتحدث عن أقلية "هامشية" أو "متطرفة" ، سواء لدوافع مبدئية قوية أو سياسية راهنة.
وقد دعم ويدعم حركة المقاطعة عدد كبير من الشخصيات الوطنية والاكاديمية والناشطين السياسيين والكتاب وغيرهم.
والمقاطعة تنبثق من دوافع مختلفة: هناك من يقاطع من منطلق دوافع مبدئية وهي رفض المشاركة بالنظام الصهيوني وعدم الاعتراف بمشروعيته، وهناك من يقاطع لأسباب سياسية خالصة، لعدم رضاه من ممارسات القيادات العربية جميعها، وهناك اناس لا يؤمنون بأن العمل البرلماني يدر بالفائدة.
فمثلاً: كل القوانين العنصرية ضد الجماهير الفلسطينية في الداخل الفلسطيني مرّت مع وجود النواب العرب وماذا استطاع النواب العرب فعله سوى المشاركة في هذه المهزلة!؟
وليس توجه المقاطعة توجهاً متطرفاً أو هامشياً أو عدمياً لا يأخذ بعين الاعتبار حاجات الناس وهمومهم، كما يدعي البعض، بل نطرح المقاطعة كجزء من برنامج يدعو لتطوير بديل وطني-شعبي "لإعادة صقل مجتمعنا داخلياً وخارجياً"، فالمقاطعة هنا معناها وضع قرار الفلسطينيين بأيدي الفلسطينيين عن طريق خلق حلقات وطنية محلية بديلة، بدلاً من الحاقهم بمؤسسات الصهيونية.
كما ان المقاطعة تمثل هنا طريقاً صحيحاً لأن تتمتها السياسية هو العمل الشعبي الجماهيري المقاوم للصهيونية، لذا هناك ضرورة لانتخاب هيئات عربية من أجل النضال الشعبي، وليس للنضال من داخل أروقة الكنيست وللأسف ان الذين يحفزون الفلسطينيين للمشاركة في انتخابات الكنيست يسعون وراء مصلحتهم فقط، وما هذه الوحدة التي يتكلمون عنها اليوم سوى وحدة كراسي ومصالح.
ولكن حسب رأيي يبقى المطلب الاساس للمقاطعة هو الدافع الوطني المبدئي، باعتبار الكنيست هي المؤسسة "الصهيونية" أو "الإسرائيلية" الاعلى والتصويت لها هو دعم لشرعيتها، وهي التي تمثل الصهيونية التي جاءت على أنقاض شعبنا وأدت الى تهجيره والتي لا تزال تمارس الاضطهاد والقمع اليومي ضد ابنائنا.
ونذكر أن كل من يُنتخب للكنيست عليه ان يقسم "يمين الولاء" للمؤسسة، وهدف الدعوة للمقاطعة لآن مرادنا ليس فقط الحصول على حقوق أقلية على اراضينا بل الحفاظ على عروبة الارض في الوقت التي تتعرض فيه لعمليات التهويد وطمس الهوية الفلسطينية والمشاركة في النظام الصهيوني اعتراف بمشروع الصهيونية كما انها تقدم له وجهاً ديموقراطياً امام الرأي العام العالمي. لكن الامر المبدئي لا يقف لوحده، فقد تعلمنا على جلدنا ان المشاركة في الكنيست لا تفيد بشيء حتى من المنظور العملي السياسي، فالنواب العرب في الكنيست ما هم سوى "معارضة هزيلة" لا تملك القوة على التأثير في القرار، ويقفون كشهود زور على الانتهاكات والسياسات والعنصرية التي تمرر من خلال الكنيست.
لقد وصل كل ذي رأي سديد في الداخل الى قناعة ان لا جدوى في المشاركة في الكنيست، وان تجربة التأثير والسعي لتحصيل الحقوق القومية والسياسية واليومية عبر الكنيست قد فشلت، أما الشخصيات العربية والاحزاب العربية المشاركة في الكنيست باتت مكبلة لحاجتها في البقاء في الكنيست مقابل تنازلها عن التصعيد الشعبي النضالي المناسب والمتكافئ للهجمة الصهيونيّة.
باختصار سبيل "اصلاح" الصهيونية والطغيان هو سبيل مسدود، ومن يراهن على هذا الوهم يجد نفسه في النهاية وقد عاد بخفي حنين، اما النواب العرب والاحزاب حصلت على الامتيازات الشخصية والسياسية لنفسها من خلال تسويق هذا الوهم وللذين يتحججون بحجة دخول الكنيست من اجل بث صوتنا للعالم نقول: "ان بث صوتنا للعالم في عصر العولمة والفضائيات والانترنت ممكن دون التحجج للدخول للكنيست".
أضف الى ذلك فان النواب العرب في الكنيست لم ينجحوا من منع المحاكمات السياسية وتدخلات المخابرات في التعيينات، كما أنهم لم ينجحوا من القيام بأبسط الاشياء، ولم يستطيعوا على سبيل المثال لا الحصر اخراج اي سجين أمني للمشاركة في جنازة أهله ولم يحققوا شيئاً بكل ما يتعلق بحقوقنا... هل التصويت ضمان لمستقبلنا كما يقول البعض ام مجرد تأكيد لديموقراطية اسرائيل... ولا أستغرب دفاع الداعين للمشاركة بانتخابات الكنيست عن رزقهم، ولكني ادعوهم للخروج من العالم الوهمي الذي خطوه لأنفسهم وللعودة للناس وللشارع وللجماهير.... فالمقاطعة في يومنا هي القوة الاولى على الساحة، وأشدد على ما قال النواب العرب في الكنيست، هو "اذا كان صوتك صهيونياً أي للاحزاب الصهيونية مثل العمل وغيره) فماذا تكون؟
وأجيبه بسؤال: "عندما تكون انت نفسك عضواً في الكنيست الصهيوني فماذا تكون؟
الجماهير سابقة لقياداتها في النضال وهي التي تدافع عن أعضاء الكنيست العرب وليس العكس، فأعضاء الكنيست العرب لم يقدموا شيئاً حتى في مجال التعليم أو غيره، وهناك أمثلة كثيرة على تقدم التحرك الجماهيري على عمل القيادات فمثلاً قضية برافر وام السحالي وأراضي الروحة ومقاومة اسكان العملاء في ام القطف.
كما وان المشاركة في الانتخابات تعمق الفرقة بين الفلسطينيين الى احزاب دون وجود فوارق في "الايدولوجيا".
بالإضافة الى ذلك المقاطعة هي تعبير رزين عن موقف اسقاط الشرعية لما يسمونه "غوطة الديموقراطية في الشرق الاوسط" ولا ننسى المجازر التي ارتكبتها السلطة في حق شعبنا الفلسطيني.
الكاتب والشاعر احمد حسين علق في الماضي على موقف المقاطعة: "لا وجود لمنطق العمل البرلماني أصلاً وحتماً هو بدون جدوى وهناك عبثية في الموضوع فالإنتخابات مبنية على علاقة جدلية بين المواطن والسلطة، بينما السلطة لا تعاملنا كمواطنين، وهم يتعاملون معنا من منطق اننا نشكل مشكلة أمنية في هذه الدولة،... من جهة أخرى نحن مواطنون بالإكراه وعليه فعلاقة المواطنة غير موجودة بيننا وبين السلطة والمنفعة من المشاركة بالانتخابات تعود للسلطة نفسها حيث أننا نعطيها المصداقية من خلال "اللعبة الديموقراطية" ووجود أعضاء كنيست يشكل قناعاً سياسياً لسياسة السلطة المتبعة ضدنا... نحن نعرف ان جماهير شعبنا أصيبت بالإحباط من جميع الاحزاب ولا جدوى من وجودها وإنما هي مشاريع فردية وشخصية وهم يحاولون الدخول الى الجماهير من خلال التضليل والاوهام والوعودات". وبغض النظر عما اذا كانت دوافع المقاطعة سياسية أم مبدئية فإن المطلوب وطنياً وآنياً هو مقاطعة الانتخابات لأنها تأتي لمصلحة الامة جمعاء.
وفي النهاية من يركض خلف حلول سريعة للمشاكل اليومية على حساب الأمة والوطن، لن يجد حلاً حتى للمشاكل اليومية إلا ليجعلها معقدة أكثر في الغد القادم.
كفرياسيف