منذ طفولتي الغضّة وأنا أردّد بعفويةٍ ترانيم حلم العودة إلى وطن ضائع بين حروف كلمات لم أعثر يوماً على معانيها. وبسذاجة طفل طرّ شاربه واشتدّ ساعده على أهازيج جفرا وصدْحِ بندقية الفدائيّ وزغاريد أم الشهيد أيقنت أن وطني كقوس قزح أراه عند كل رابية وأعدو لكي أمسكه فيلوذ مبتعداً عن قبضتي، وكينونته لا نقاش فيها لكن إدراكها في مشقة وصف روعة زرقة البحر وسحر الشفق وشاعرية خضرة الحقول، لضرير.
كنت أؤمن أن وطني حيث تعشش العصافير وتشرب الحمائم وتتلاطم الأمواج وتنساب الجداول بأناقة تتناغم مع رقص عيدان القصب الوارفة التي تتمايل بخيلاء على ضفافها. وكنت أعتقد حتّى (لفرط شاعريتي، وربما سذاجتي !) أن (أفروديتا) ربة الخصب والحبّ والجمال تسكن جوف أرضي مع عشيقها الصياد الجميل (أدونيس) في أبهى وأبهج فصول الدفء والخضرة والضياء قبل أن يرسله (زيوس) نحو العالم السفليّ.
وكلما تهادت بي سفينة الحياة، لقّمتني التجاربَ بأطراف البنان الحقيقةَ تلو الحقيقةِ، فلم تعد لوقع الوطن على أذنيّ تلك الموسيقى العذبة التي لطالما أطربتني وأذكت فيّ لهيب نار الحماس في طور البراءة من عمري. لقد هرمت الجذوع وتحولت إلى توابيت، وتكسرت فروع الأشجار على التخوم فأودت بالأعشاش وتهشمت أجنحة الحمام في أوج سفرها العسير وصمت إيقاع الغدران في حضرة طقوس القحل الرديئة.
منذ صار الوطن اصطلاحاً مجازياً لا لون له ولا طعم ولا وزن ولا أبعاد ولا معالم ولا تدركه الحواس، كأسطورة إغريقية نمت وتغذت من وحي العدم وخيالات هوميروس الزاخرة، بِتُّ أتجرّع علقم الغربة في داري، أنهل مأساتي وهمومي وأعيش كوابيسي التي تقتحم لحظات رقادي البخيلة في ثنايا وحدتي كناسك وقور يذرف العبرات بصومعته علّها تغسلُ خطايا البشريّة، ومن قصبات وجعي الفضيّ أصنع نايي الذي يبثّ ألحان حزني في فضاءات الكون، هذا الكون (الأبدي المتغيّر) كما وصفه (بيرسي شيلي) في وصفه لخفايا صمت القبور المكتظة بالموتى.
*****
وميض تفاؤل:
كلّ شعوب الأرض تتغنى بأوطان، لها حدود وأعلام وأناشيد وطنيّة ومصانع وملاعب وجامعات وأمجاد وإبداعات ومنتخبات وطنية وأعياد وطنية وإنجازات وطنيّة وإرث ثقافيّ تفاخر به الأمم، ولها تاريخ وأحلام وطموحات ومخزون وافر من القمح والفرح، إلا ههنا : فالوطن يتلخّص بسلسلة لا نهائية من الذكريات الدامية – ذكرى النكبة، ذكرى النكسة، ذكرى يوم الأرض، ذكرى الانتفاضة الأولى وبعدها الإنتفاضة الثانية، ذكرى مجزرة رقم واحد، تليها مجزرة رقم اثنين تتبعها أخرى ثم ذكرى اغتيال الشهيد فلان وتليها ذكرى لشهيد آخر. فصول لا حصر لها من النوائب والحسرة والدموع فلا قمح ولا فرح. وكلّما نكسنا الأعلام واكتست الوالدات الثاكلات بالسواد، انتصبت في التلال مستوطنة أخرى، وكلّما انفضّ مهرجان خطابيّ ناريّ لرموز السلطة المبدعين في نظم أراجيز الزيف والكذب التي تقطر حلاوة وتعلوها طلاوة، تحوّل بيت أخر إلى ركام ونام قاطنوه في العراء على حلم النصر المؤزر الذي يعيش في تصريحات الزعامات الضبابيّة، وكلما خاض حماة الديار من ساستنا الورقيين في حواراتهم الماراتونيّة مع حكماء صهيون العصريين، زادت بيوت العزاء، واغتيلت كروم الزيتون واشتعلت الحقول وتضاعف عدد الجائعين والذين يفنى ربيع شبابهم في ظلام غياهب السجون، وكلما اتسعت هوّة الصراع بين الفصائل ضاق الحصار على شعب يختنق في ذروة الجوع والعتمة. وبما أننا نزاحم الشعوب على حصة في صفحات (غينس) ونفتّش عن رقم قياسيّ ولو في مجال المنسف والتبولة والحمّص، فلندع التشاؤم ولننظر إلى نصف الكأس الممتلئة من مآسينا، فالشكر كل الشكر للإحتلال: بفضلكم، نحن نعيش في أكبر سجن في العالم !!.
*****
ماذا بقي من يوم الأرض؟
يوم الأرض كان يوماً ما من ملامح كياننا الوطنيّ. كانت الرسالة موجّهة إلى كل جيل من التلاميذ والعمال والفلاحين وربات البيوت والقابضين على القلم والمطرقة والمنجل والمنشار وحتى المكنسة على نواصي الطرقات بأننا أمّة تحيا حرباّ لا تخبو نارها ولن تضع أوزارها من أجل البقاء عنوةً في هذه البقاع والتشبث بما تبقى من هويتنا كشعب تمتدّ جذوره نحو أعماق التراب، حرباً ضروساً مع من يعتبرنا ظاهرة عابرة ولا يرى فينا أصحاب الدار بل عبئاً وخللاً بيئياً يستوجب العلاج كثقب الأوزون !. ومع مرور الأعوام، صارت تتلاشى ذكراه كقطعة ثلج تصهرها الشمس دون هوادة.
ما حجم هذه الذكرى في صفحات تاريخ الإنسانيّة، وهل تستحقّ تدوينها، كفستان زفاف (غريس كيلي) مثلاً ؟!!.
أما زعامة العرب المتهدّلة في الداخل الإسرائيليّ التي هي أقرب الى الفرقة الإستعراضية فقد صارت تحتفي به بخجل بادٍ كضيف ثقيل الظلّ تستعجل انقضاءه وتقتصّ منه حتى أضحى يوماً أخر من أيام العروبة البائدة تسطر فيه قياداتنا فصولاً من السفسطة العارية، فانحصرت الذكرى في مسيرات تتقدمها هذه القيادة المثيرة للشفقة، وما هي إلا من دلائل الضمور في مناخنا السقيم من الفساد والانحطاط والإرتشاء والإتجار بالضمائر والعنف والكذب والنفاق والظلم والخيانة بزمن الجفاف الأخلاقيّ في حقبة الخريف العربي وعصر القمم العربيّة العقيمة وسحق الشعوب المستضعفة في اليمن وسوريا وليبيا والعراق وغيرها.
في كوابيسي المزعجة تلاحقني رؤيا تخلُصُ فيها ذكرى الأرض (بعد أن تلتهم السلطة النهمة كامل التراب الوطنيّ) على منصًةٍ في قلب مستوطنةٍ، تحييها فرق الرقص تحت أعلام اسرائيل حيث يتمطّى ممثلو حكومة إسرائيل في مقدمة ضيوف الشرف، وبعد انقضاء الحفل تعود جموعنا المنتشية إلى مساكن شيدوها في (عالم إفتراضيّ) !.
*****
حضارة بسعر التكلفة:
هذا الطوفان من سباقات المواهب الغنائية، وقتل جيوش العرب لشعوبها باسم السيادة وباسم الحرب على الإرهاب، وتشريد الآمنين باسم الممانعة، ورضوخ أل سعود ونهيان وصباح وزعامة مصر العميلة وباقي أفراد الشلّة للإرادة الأمريكيّة والإسرائيليّة، وتكفير الناس إزاء تحليل العار والدعارة، وتنصيب نجمة الترنّح الشرقيّ الحاجّة فيفي عبده كأم مثالية كل هذا من جهود العرب اللذين ما انفكوا يلهثون من أجل اللحاق بركب الحضارات المتنوّره. وفي المخيمات يفتك الجوع بالأطفال اللذين وصمهم التاريخ باللجوء.
فلتصطلي كل حضارات الدنيا في الجحيم أمام لوعة طفل فلسطينيّ يفغر فاهه لقطرة حليب وكسرة من رغيف خبز.
موقع العرب يفسح المجال امام الكتاب لطرح أفكاركم التي كتبت بقلمهم المميز ويقدم للجميع مساحة حرة في التعبير عما في داخلهم ضمن زاوية منبر العرب. لإرسال المواد يرجى إرفاق النص في ملف وورد مع اسم الكاتب والبلدة وعنوان الموضوع وصورة شخصية للكاتب بجودة عالية وحجم كبير على العنوان: alarab@alarab.net